ما إن تدخل مطار بيجين حتى تبدأ الصين بالتفاخر بعضلاتها أمام القادمين إليها، فالمطار ليس هائلاً فحسب، بل مصمم بحيث تبدو المطارات العالمية الأخرى بالمقارنة معه مجرد قسم من أقسامه، فبينما لا يمشي المسافر عادة سوى مائة أو مائتي متر على الأكثر لاستلام حقائبه في المطارات الأخرى، لا بد له في مطار بيجين أن يستقل قطاراً خاصاً يسير به محطات ومحطات حتى يصل إلى القسم المخصص لاستلام الحقائب. كيف لا والصين تعتمد في قوتها على الحجم والكثرة كما يبدو من تاريخها وحاضرها، فـ"المدينة المحرمة" داخل العاصمة، وهي مقر إقامة الأباطرة قديماً مثلاً أشبه بمدينة صغيرة داخل مدينة ممتلئة بعشرات القصور والساحات الهائلة التي كان الإمبراطور يحتاج وقتاً طويلاً كي يتجول في جنباتها.بعبارة أخرى، لقد كان أباطرة الصين لا يعيشون في قصور، بل في مدينة من القصور داخل بيجين.
صحيح أن الصينيين يستطيعون أن يتباهوا أمام العالم بحجم بلدهم الكبير سكاناً ومساحة، لكن عاصمتهم لا تختلف عن العواصم الغربية إلا فقط بالكلمات الصينية المكتوبة على واجهات المباني الضخمة، وما عدا ذلك مجرد استنساخ فج للمدن الغربية، مثلهم في ذلك مثل العواصم الآسيوية الأخرى التي ترفع شعار "الاتجاه شرقاً"، بينما تولي وجهها غرباً. يبدو الصينيون من خلال نمط حياتهم الاقتصادية مهووسين بالنموذج الغربي إلى حد المبالغة، فلما فكروا باحتذاء الاقتصاديات الرأسمالية، لم يأخذوها كما هي، بل زايدوا عليها كثيراً على ما يبدو. ولو عرف الزعيم الشيوعي الكبير ماوتسيتونغ المسجّى في قاعة بساحة "تيانامين" أن بلاده تحولت إلى مرتع رأسمالي متوحش لبكى دماً على الثورة الاشتراكية التي قادها وذبح العديد من الصينيين من أجلها. ها هي بيجين يا "ماو" وبقية المدن الاقتصادية تتفوق على المدن الأمريكية والأوروبية في نزعتها الرأسمالية المتوحشة، فلو قارنت مثلاً عدد محلات الماركات الفاخرة الموجودة في لندن وروما وباريس بعدد المحلات الموجودة في بيجين لوجدتها أكثر بكثير في العاصمة الصينية التي تنتشر الماركات الغربية الفارهة في معظم شوارعها بأعداد مهولة. فإذا أردت أن تشتري مثلاً ألبسة وساعات وأدوات وعطورات ومواد وأجهزة إلكترونية غربية فاخرة ستجد عشرات المحلات منها في بيجين. والغريب أن أسعارها أغلى في الصين بمرات من أسعارها في بلدها الأم كباريس وميلان ولندن ونيويورك بسبب الضرائب الرهيبة التي تخجل منها الضرائب البريطانية أو الفرنسية والألمانية.
تبدو الرأسمالية الصينية أكثر توحشاً واستغلالاً ونهماً بكثير من الرأسمالية الغربية الأصيلة، بحيث أصبح المال يتحكم بكل شاردة وواردة من حياة الصينيين ونشاطاتهم. ولا شك أن السياح سيترحمون على لندن وباريس وروما عندما يتجولون في أنحاء العاصمة الصينية. فكلنا مثلاً يستطيع أن يمضي كل وقته في حديقة "هايد بارك" البريطانية الشهيرة دون أن يدفع فلساً واحداً. كما باستطاعته أن يزور مجاناً أهم متحف للتاريخ الطبيعي في العالم في لندن، وكذلك أيضاً المتحف البريطاني العظيم الذي يكلف الدولة البريطانية ملايين الجنيهات سنوياً. أما في بيجين، فعليك أن تدفع لدخول حديقة بائسة بالقرب من ساحة "تيانامين". أما المتاحف والمناطق السياحية فحدث ولا حرج، إذ تفرض على الداخلين إليها شراء تذاكر غالية جداً. بعبارة أخرى، لا بد للسائح أن يخصص ميزانية معتبرة فقط لزيارة المناطق السياحية داخل العاصمة.
صحيح أن بإمكان السائح أن يزور ضريح مؤسس الصين الحديثة ماو تسيتونغ مجاناً في قلب ساحة "تيانامين"، لكن السلطات الصينية الرأسمالية المفرطة في الاستغلال وجدت طرقاً أخرى لابتزاز السياح وجعلهم يدفعون الكثير قبل دخول الضريح. فمثلاً لا يمكنك أن تحمل كاميرا وأنت تزور القبر، لهذا لا بد أن تضعها في مكتب الأمانات الذي يطلب منك مبلغاً كبيراً بالمقارنة مع الخدمة التي يقدمها كي يحفظ لك الكاميرا لمدة نصف ساعة، مع العلم أن كل السياح يحملون كاميرات، وكل مكاتب الأمانات في العالم مجانية، إلا في الصين. وأحياناً يبتزك بعض الموظفين الصغار قبل الدخول إلى قاعة الضريح ويطلبون منك وثائق رسمية كجواز سفر أو هوية شخصية، مع العلم أن ذلك ليس مطلوباً رسمياً. فعندما وجدني أحدهم أحمل كاميرا اصطحبني فوراً إلى مكان بعيد، وسألني من أي بلد أنا قادم، فقلت له: "أنا من سوريا"، فرفع لي علامة النصر، ولا أدري إذا كان يقصد بذلك انتصار الثورة السورية، أم انتصار النظام السوري الذي تدعمه الصين. لكن مع ذلك، شعرت بالغبطة كونه عرف من أين أنا قادم، لعله يساعدني في تسهيل الدخول إلى الضريح الذي يصطف أمامه ألوف الزائرين. لكن سرعان ما تلاشت غبطتي، عندما سألني الموظف إذا كنت أحمل جواز سفر، فقلت له لا، فطلب مني على الفور مبلغاً كبيراً من المال، فقلت لماذا، فأجاب:"لأنك لا تحمل جواز سفر"، مع العلم أنه ليس مطلوباً منك أن تحمل أي شيء لدخول الضريح. على العموم أعطيته المبلغ "الرشوة" على مضض. وقد ذكرني هذا الموقف بموقف الصين من القضايا الدولية كالقضية السورية، فهي تقيس كل شيء بمقياس الربح المادي لا أكثر ولا أقل، وباتت تتعامل مع بقية الدول كشركة تجارية فجة لا تعير المبادئ الإنسانية أي قيمة، حتى لو كان دعمها لهذا النظام أو ذاك على حساب أشلاء ألوف الأطفال وحطام المدن.
لا شك أن الدول بحاجة لمبالغ ضخمة لصيانة مناطقها السياحية، لكن ليس بوضع أعباء هائلة على جيوب السياح وابتزازهم. باختصار، ليس هناك شيء بالمجان أبداً في بيجين بلد الاشتراكية المزعوم، ولا حتى في بقية بقاع الصين حتى للصينيين المساكين أنفسهم.
تصوروا أن حتى التعليم الابتدائي ليس مجاناً، فبينما توفر كل الدول الرأسمالية التعليم المجاني للأطفال، فإن الصين تفرض مبالغ كبرى على الشعب مقابل التعليم البسيط. وهذا يعني أن ملايين الصينيين، خاصة في المدن النائية قد لا يعلّمون أولادهم بسبب الفقر المدقع الذي يعاني منه حوالي ثمانين بالمائة من الشعب. صحيح أن الصين قد تبدو للعالم الخارجي عملاقاً اقتصادياً ناهضاً بسرعة البرق، لكنها في الحقيقة بلد التخلف والفاقة بامتياز، فباستثناء بضعة مدن قليلة تقع على الشريط الساحلي، ما زال مئات الملايين من الصينيين يعيشون على قارعة الحضارة. ومخطئ من يظن أن عدد سكان الصين مليار وثلاثمائة مليون نسمة، فالعدد لا يتجاوز أربعمائة مليون فقط، أما حوالي المليار الباقي فهو بحكم الميت، لأنه محروم من أبسط حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وقد روى لي أحد الخبراء أن ملايين الصينيين خارج المدن الكبرى لم يروا سيارة في حياتهم، وإذا شاهدوا سيارة لا يعرفون كيف يفتحون بابها، هذا إذا لم يصابوا بدهشة كبرى لمشاهدة آلة تتحرك. لا عجب إذن أن عدد الصينيين الذين ينزحون من الريف إلى المدن الكبرى القليلة يتجاوز المائة مليون سنوياً.
0 التعليقات:
Post a Comment