دراسة مجتمعات ما بعد الثورات تؤكد صعوبة المرحلة التى تمر بها مصر والمصريون. ولنبدأ القصة من البداية.
فى آواخر عهد تشاوشسكو (ديكتاتور رومانيا الشهير)، خرجت مظاهرات عديدة كانت تواجَه بقمع شديد، ولكن وقفت امرأة أمام أحد العساكر الذى هددها بالقتل، فقالت: «اقتلنى، لن تستطيع أن تقتلنا جميعا»، ثم انتقلت العبارة منها لمن بجوارها، وهكذا ككرة الثلج حتى أصبحت عبارة شهيرة، وقف أمامها جنود الشرطة والجيش موقف العاجز، لأنهم من الممكن أن يقتلوا أو يعتقلوا شخصا أو عدة أشخاص، إنما قتل المئات أو الآلاف من المستحيل. لكن هذا ما كان ليحدث إلا بأن يكون اقتناع هؤلاء بالديمقراطية وبحقوقهم السياسية من الرسوخ بحيث يكون طلبهم غير مرن بلغة الاقتصاديين. فمهما ارتفعت التكلفة، فإنهم لا يتنازلون عنها، بل ومستعدون للتضحية من أجلها. هذه مسألة ثقافية فى المقام الأول. وكان هذا التغير فى الثقافة الجمعية، هو نقطة التحول فى بناء الديمقراطية فى كل دول أوروبا الشرقية. ولكن عملية زراعة الديمقراطية فى الجسد السياسى لدول أوروبا الشرقية أخذ سنوات عديدة.
وهذا هو التحدى الأكبر الذى تواجهه مصر منذ 25 يناير 2011، وهو تحد سيظل ملازما لنا لأننا خطونا الخطوة الأولى، ولم تزل هناك خطوات. وما نعيشه الآن هو محاولة اكتساب المهارات الديمقراطية التى تبدو غريبة على المجتمع لعدة أسباب:
أولا، من يحاول أن يلتزم قيم الديمقراطية فى مصر الآن يعى أنه كمن يحاول أن يزرع عضوا غريبا فى جسد اعتاد غيابه لفترة طويلة من الزمن. فتاريخنا المعروف لا يوجد فيه ما يكفى من ركائز قيمية أو خبرات متوارثة لدور فاعل للإرادة الشعبية فى إدارة شئونها. فالمصريون تاريخيا يُحكَمون من قبَل الفراعنة الذين كانوا أقرب إلى آلهة أو نواب عن الآلهة. وكان المصرى تابعا غير ذى إرادة مستقلة؛ فإن انتصر كهنة آمون فى طيبة تبعهم، وإن انتصر كهنة حزب التوحيد (آتون) فى تل العمارنة تبعهم. وبعد أن انهارت الحضارة الفرعونية وجاء إلينا الغزاة من كل حدب وصوب، لم يكن للإنسان المصرى دور حقيقى فى اختيار من يحكمه أو المشاركة فى عملية صنع القرار. وحتى فترات ظهور إرادة شعبية متبلورة كانت تواجَه إما بقمع شديد أو بتحالف من أهل الثروة والسلطة والقمع للنيل منها أو لتحويلها عن مسارها. وباستثناءات قليلة للغاية، لكنها مهمة فى دلالاتها، مثل ثورة الأشراف بقيادة عمر مكرم فى مطلع القرن التاسع عشر، أو ثورة عرابى فى آخره، أو ثورة 1919، فإن المصرى لم يكن فاعلا فى القرارات السياسية الكبرى التى تحكمت فى مسيرته ومساره. وقد كان رجال ثورة يوليو هم أول مصريى الميلاد والدم يحكمون مصر بعد حوالى 2500 سنة من حكم غيرهم لها. وحتى بعد أن حكموا فلم يعطوا الإنسان المصرى الثقة أو الفرصة كى يختار من يحكمه بنفسه. فطوال كل هذا التاريخ، وباستثناء سنوات قليلة مثل الفترة التى أعقبت دستور 1923 ومع تزوير صارخ فى كثير من الأحيان، كان الحاكم يختار ولى عهده أو نائبه، أو الخليفة يُعيِّنُ واليَه، أو المستعمرُ يفرض إمّعاتِه. ومن هنا فإن من أوقف مسلسل توريث السلطة فى مصر من رئيس الجمهورية السابق إلى ابنه ونائبه غير المعلن، نجح فى أن يبنى سدا منيعا أمام تيارٍ جارف من عقلية مصرية عاشت لبضع آلاف من السنين بمنطق «أصلح الله من أصبح» و«مستبد لكن» «وإحنا ما بنفهمش فى السياسة» «وبالروح بالدم نفديك يا...»، وغيرها من شعارات تؤكد أن المصريين ظلوا أبناء مخلصين لتاريخ طويل من الاستبداد الذى كان مقبولا لأن البديل كان هو الفوضى. إذن هى معجزة سياسية أن يتغلب أبناء هذا الجيل على كل هذا التاريخ الموروث وأن يبدأوا فى التأسيس لدولة ديمقراطية حقيقية.
ثانيا، هناك معضلة أخرى، أعتقد أن أبناء هذا الجيل يجتهدون فى التغلب عليها، وهى أن قطاعا من الخطاب الإسلامى طوال القرن الماضى كان يدافع عن الإسلام فى مواجهة الديمقراطية باعتبارها جزءا من مجموعة من الآفات المستوردة التى هى أقرب، من وجهة نظر القائمين عليه، إلى مؤامرات غربية؛ فقد انهارت الخلافة لصالح أفكار القومية، التى انهارت بدورها لصالح القطرية، وتلقت أفكار الحاكمية لله وشمول الإسلام واتساعه لكافة مناحى الحياة ضرباتٍ كثيرةً من قبَل الأفكار العلمانية الوافدة، ثم تراجع فى كثير من البلدان العربية تطبيق الشريعة الإسلامية لصالح القوانين الوضعية، ثم ربط الكثير من القائمين على الخطاب الإسلامى كل ما سبق بجانب آخر من جوانب المؤامرة الغربية بوضع الديمقراطية العلمانية الوضعية القطرية فى مواجهة حكم الشورى الإلهى الإسلامى فى ظل دولة الخلافة. وفى ظل هذه «المؤامرة» كان من الصعب أن يتجرأ فقهاء الإسلام للقبول بالديمقراطية أو الدفاع عنها لأنها جاءت كجزء من «طرد أو حزمة متماسكة» من الأفكار والنظريات والأحكام التى تتطلب جهدا تنظيريا واستيعابا للفكر الغربى وعيناً مايكروسكوبية فضلاً عن جرأة شخصية تجعل صاحبها قادراً وراغباً ومستعداً لكى يقف أمام الناس ويقول لهم إن هذه الحزمة القادمة من الغرب فيها بعض ما قد يفيد وفيها بعض ما قد يضر، ولكن عقول العامة فى آذانهم كما قال شيكسبير. فحين وقف الشيخ القرضاوى مثلاً يمدح فى إسرائيل ديمقراطيتها منذ أكثر من 10 سنوات، على بغضه لإسرائيل قطعاً، وفضلها على الانتخابات المزورة الشائعة فى مجتمعاتنا، فقد هاجمه المهاجمون، ومنهم فقهاء كبار، لأنه أخلّ بعقيدة الولاء والبراء، ووصفوه بأنه من أهل البدع ومن العقلانيين (أى من يقدمون العقل على النص)، ومن هنا فإن عين الرجل المُدَرّبة على التفرقة بين دروب الحق ودروب الباطل لم تلقَ عقولاً مدربة على قبول الحق حتى وإن جاء من أهل الباطل.
ثالثاً وأخيراً، فإن دعاة الديمقراطية فى مجتمعاتنا يواجهون مأزقاً آخر لأن الديمقراطية فى بلداننا لا تعنى بالضرورة الليبرالية السياسية بل ربما هى المَنفذ الأهمُّ لتدميرها. ولنُعرِّف المصطلحات فى عُجالة، فالليبرالية السياسية هى قبول الآخر كمساوٍ أخلاقى وسياسى وقانونى لك مع احترام حقه فى الاختلاف معك سواء كان اختلافه فكرياً أو دينياً. أما الديمقراطية فهى تنصبّ على اختيار ومراقبة ومحاسبة من يتخذون قرارات سيادية فى المجتمع. ووصول الكثير من المجتمعات الغربية (أوروبا الغربية مثلاً) والشرقية (مثل اليابان والهند وكوريا الجنوبية) إلى صيغة الديمقراطية الليبرالية مرّ بقرون من الصراعات. ويكفى أن نشير إلى أن مؤسسات الديمقراطية غير الليبرالية على عيوب فى التطبيق، نشأت فى القرن الخامس قبل الميلاد فى أثينا، أما الليبرالية كفكرة معاصرة فهى مرتبطة بكتابات الفلاسفة الليبراليين فى أوروبا بدءاً من القرن التاسع عشر. المشكلة فى مصر، كما هى فى كثير من المجتمعات ذات الانقسامات الأيديولوجية الحادة، أن الديمقراطية الحقيقية قد تنتقص من الليبرالية الحقيقية بانتخاب أشخاص لهم رؤى تناهض حقوق الآخرين فى الاختلاف. ومشكلة ألمانيا فى عام 1933 أنها انتخبت ديمقراطياً هتلر ورجاله وكانوا الأقل ليبرالية على الإطلاق فى المجتمع الألمانى دون قيود دستورية أو مؤسسية على قدرتهم على تدمير الديمقراطية التى أتت بهم. وبالتالى فإن الدعوة للديمقراطية لا بد أن تكون مشفوعة بالاستفادة من خبرات سابقة وكثيرة لكيفية التأكد من ألا تتحول الديمقراطية إلى أداة هادمة لذاتها، وهو ما ينبغى أن يراقبه الجميع أثناء كتابة الدستور الجديد لأنه إما أن يكون أداة للحفاظ على الديمقراطية المتسامحة وتطويرها أو أداة لتدمير كل ما أنجزناه حتى الآن. وبالمناسبة، واحد من أسباب ضعف المعارضة فى مصر أنها معارضة غير ليبرالية فى مضمونها، حتى وإن ادعت غير ذلك، بدليل عدم قدرتها على التسامح مع الكثير من مساحات الاختلاف داخلها، فنسمع عن انشقاقات كثيرة تتداخل فيها العوامل الشخصية مع الأيديولوجية، وهى آفة موروثة من عهد مبارك، وهى ما يفسر لماذا كان الحزب الوطنى أقرب إلى بعض قوى المعارضة من بعضها البعض.
من تاريخ طويل غابت فيه إرادة الإنسان المصرى عن الحياة السياسية، وخطاب دينى خلط الديمقراطية بالعلمانية بالقومية بالوضعية، وقوى سياسية تنادى بالديمقراطية دون التزام بالليبرالية، إذن نحن أمام صعوبات كثيرة، إن نجحنا فى التغلب عليها سنكون قد صنعنا معجزة حقيقية فى تاريخنا. هى بالفعل كعملية زراعة عضو جديد فى جسد عليه أن يتأقلم كى يتفاعل معه. وكلى أمل أننا نسير على الدرب الصحيح، ببطء نسبى بمعيار اللحظة، وبسرعة شديدة بمعيار التاريخ.
0 التعليقات:
Post a Comment