«غباء هتلر تمثل فى أنه أراد أن يحارب الجميع: الفرنسيين، الإنجليز، الأمريكان، والروس. قمة الذكاء أن نجعل أعداءنا يحاربون بعضهم بعضا دون أن نحاربهم نحن».. هذه مقولة نسبت إلى أحد قيادات جهاز المخابرات السوفييتى فى مطلع الخمسينات، وقد التقطتها أجهزة المخابرات الأمريكية وكتبت تقريرا مصغرا تحت عنوان: «تفخيخ علاقات الولايات المتحدة بحلفائها: ماذا يمكن أن نفعل؟».

وقُدِّم التقرير آنذاك للرئيس أيزنهاور الذى قام بتكليف مجموعة من الاستخباراتيين وأساتذة العلاقات الدولية ببحث كيفية مواجهة المؤامرات السوفييتية. وبعد عدة محاولات كان القرار أن يرتفع مستوى العلاقة بين الولايات المتحدة وحلفائها كى تصبح علاقة «تحالف استراتيجى». والسر فى هذا أن تكون عمليات التنسيق بين أجهزة صنع القرار من القوة والسرعة بحيث يصعب تفخيخها أو النيل منها.

أردت فى الفقرة السابقة أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى فكرتين:

الأولى: أن فكرة التفخيخ جزء من العلاقات الدولية. الثانية: أن العلاقات العصية على التفخيخ تكون بتوثيق العلاقات لتصبح «تحالفا استراتيجيا».

خذ معك عزيزى القارئ ما جاء فى السطور السابقة، وتعالَ نزُر واقع العلاقات المصرية الأمريكية الآن.

إعلان الرئيس الأمريكى فى مقابلة أجرتها معه شبكة «تيليموندو» التليفزيونية الأمريكية الناطقة بالإسبانية: «لا أعتقد أننا نعتبرهم (المصريين) حلفاء، ولكننا لا نعتبرهم أعداء أيضا»، عبارة لافتة ومقلقة لأنها ببساطة تعنى أن تفخيخ العلاقات الأمريكية-المصرية قد تم بنجاح. وقد التقطنا نحن، المصريين ومعنا الكثير من العرب والمسلمين، الطعم بأن حوّلنا الفيلم التافه المسىء للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، إلى أساس لعلاقة جديدة مع الولايات المتحدة قائمة على استحضار صورة العداء ضد الحكومة والشعب فى حين أن لا الشعب ولا الحكومة الأمريكية كانا على علم بهذا الفيلم من الأصل، ولا يوجد فى الولايات المتحدة فكرة أخذ موافقة الحكومة أو الرقابة على إنتاج أى فيلم.

وقال أوباما إن الحكومة المصرية الجديدة، وهى حكومة منتخبة ديمقراطيا، ما زالت «مشروعا قيد الإنشاء وأنها ما زالت تتلمس طريقها»، وهذا حق ولكنه مؤشر على عدم الثقة فى أن الحكومة الجديدة قادرة على أن تكون «حليفة» للولايات المتحدة.

الحزن شديد فى الولايات المتحدة، وقد تحدث أوباما إلى والدَى السفير كريس ستيفنز الذى قُتل فى هجوم على السفارة الأمريكية فى ليبيا وقال لهما إن العدالة لا بد أن تتحقق. وفى مقابلة تليفزيونية منفصلة قال أوباما «إننا سنلاحق كل من يهاجم الأمريكيين». وفى هذا التوقيت تحديدا، فإن التفخيخ أخذ بعدا مهما وهو أن العلاقات الأمريكية المصرية والأمريكية العربية أصبحت قضية انتخابية التفت إليها الكثيرون أكثر من بعض القضايا الداخلية. وهو ما يجعل التصعيد متوقعا مع مقتل أول رئيس أمريكى منذ أكثر من ثلاثين عاما.

وقد قرن الرئيس الأمريكى أقواله بأفعال وحرك سفينتين حربيتين فى اتجاه السواحل الليبية، وأرسل خمسين بحارا من وحدة مكافحة الإرهاب إلى ليبيا. ولم يعلق البنتاجون على تحليق طائرات حربية شرقى ليبيا بحثا عن مخيمات محتملة للمسلحين.

وفى بيئة انتخابية متصاعدة يجد المرشح الجمهورى للرئاسة، ميت رومنى، الفرصة مواتية للهجوم على أوباما من أن «الرئيس متحمس للاعتذار عن القيم الأمريكية، وأنه يرسل رسائل مختلطة». ويذهب أنصاره إلى وصف أوباما والديمقراطيين بأنهم «غير أمناء على أمن أمريكا والأمريكان».

ودعونى أذكر حضراتكم بما سبق أن كتبته عن الأسس التى تقوم عليها العلاقات الأمريكية-المصرية فى مرحلة ما بعد الثورة.

أولا، هناك «عُقدة إيران» و«عُقدة شيلى» و«عُقدة الفلبين».. هذه العُقد الثلاث أصبحت علامات فاصلة فى تاريخ الدبلوماسية الأمريكية حيث تحول التدخل الأمريكى على عكس إرادة الناخبين فيها إلى رد فعل عكسى ولّد عداءً دامَ عقودا لما نمّ عنه من احتقار الإدارة الأمريكية لإرادة شعوب هذه الدول. لذا فأوباما لا يريد أن يكون نيكسون الذى فقد شيلى أو كارتر الذى فقد إيران أو ريجان الذى فقد الفلبين بأن اختاروا أن يكونوا على الجانب الخاطئ من التاريخ، وفقا للتعبير الأمريكى. ولهذا فإنه لا شك لا يشعر بكثير من الارتياح بأن تتوتر العلاقات الأمريكية-المصرية أو الأمريكية-الليبية لأن هذا سيعنى بوضوح فشل استراتيجيته القائمة على دعم الثورات العربية.

ثانيا، هناك اتفاق، لا يحبه كثيرون رغما عن أنه منطقى، أن رقم «اثنين» يحل محل رقم «واحد» حال غياب هذا الأخير. الفريق الأول فى الدورى لآخر عدة عقود غاب عن الساحة فجأة، فمن المنطقى أن يحل محله الثانى. وهو ما يفهمه الأمريكيون. الإخوان فازوا فى كل الانتخابات التى دخلوها منذ اندلاع الثورة سواء كانت الاستفتاء أو انتخابات مجلسى الشعب والشورى أو الرئاسة وسيفوزون بالمحليات. بل لو تم عقد انتخابات مجلسى الشعب والشورى خلال سنة من الآن، وبدون خطيئة عظمى خلال تلك الفترة، فسيفوزون بالأكثرية مرة أخرى.

ولماذا نذهب بعيدا، ففى آخر انتخابات نزيهة فى مصر فى عهد مبارك (2005) تغلب الإخوان على الحزب الوطنى، ففى حين فاز الحزب الوطنى بحوالى ثلث المقاعد، فاز الإخوان بـ 73٪ من المقاعد التى جرى عليها التنافس النزيه فى الجولتين الأولى والثانية (88 مقعدا من 120).

إذن فوز الإخوان بالانتخابات، من وجهة النظر الأمريكية، من حقائق مصر ما بعد الثورة إلى أن يجدّ جديد. ولهذا فإن الأمريكان يعرفون أن مصر بلا إخوان فى السلطة أو حولها هو جزء من ماض لا يمكن أن يعود.

ثالثا، العدو المستقر الذى يمكن احتواؤه، أفضل من الحليف غير المستقر، وقطعا أفضل من العدو الذى لا يمكن احتواؤه. لا تريد الولايات المتحدة، ولا أى دولة فى العالم الغربى، أن تكون مصر مثل باكستان حيث تكون الولايات المتحدة حليفا للحكومة وعدوا للشعب إن هى رفضت إرادة الناخبين. احتواء دولة مثل مصر وهى مستقرة (أى لها عنوان واحد يمكن مراسلتها عليه وهو الحكومة المصرية) سيضمن استقرارا للمنطقة كلها، شريطة أن يمكن احتواؤها.. كيف؟

رابعا، الولايات المتحدة تعرف ما الذى تريد من مصر، والإخوان أبدوا استعدادا للتلاقى مع الولايات المتحدة على هذه الأمور. الأمريكان مستعدون للتعاون مع أى حكومة تستوفى خمسة شروط: تحقق أمن إسرائيل، تقاوم القوى المناوئة للغرب فى المنطقة (وعلى رأسها إيران)، تضمن العبور الآمن فى قناة السويس، تلتزم بأى صيغة من صيغ اقتصاد السوق، تلتزم بالحقوق والحريات الأساسية للمرأة والأقليات ليس عن التزام حقيقى بهذه الحقوق من قبل الولايات المتحدة ولكنها الأداة الأسهل لشيطنة نظم الحكم التى لا تلتزم بها.

الأمريكان يعرفون المأزق الاقتصادى الذى تمر به مصر: ناس كثيرة وموارد قليلة وسوء إدارة لكل منهما. إذن لا ينبغى أن تغرق مصر، لا بد أن تطفو فقط، ولكن لا بد ألا تسبح بسرعة عالية حتى لا تكون مركز قوة؛ لا بد أن تظل رجل المنطقة المريض، لا تصح ولا تموت، لا بد أن يكون سكانها كثيرين وغير متعلمين وأن تتسول من الآخرين. وهذا مضمون من وجهة نظر الأمريكان، ولن يستطيع تغييره الإخوان، على الأقل على المدى القصير.

تفخيخ العلاقات الأمريكية-المصرية ليس فى مصلحة أى من الطرفين. وأعود إلى أوباما فى تعليقه على انتقادات «رومنى» الشديدة له. قال أوباما إن رومنى يجيد «الرمى أولا والتصويب لاحقا، ومن الأمور التى تعلمتها كرئيس هو ألا أفعل ذلك فمن المهم أن تعرف أن الآراء التى تطلقها يجب أن تكون مدعومة بحقائق وأدلة وأنه يجب أن تفكر فى النتائج قبل أن تطلق أقوالك».

ما نفعله نحن كذلك فى شوارعنا يقوم على نفس الفكرة: الرمى أولا ثم التصويب لاحقا، المشاركة فى حفلات الغضب العنيف قبل تحديد الهدف من الغضب والتأكد من أنه لن يكون عنيفا.

ضربة معلم أصابت العلاقات فى نقطة دون نقطة المقتل لكنها مؤشر أن العلاقات بالفعل مرشحة لأن تكون علاقات غير استراتيجية وعلاقات أقل من أن تكون علاقة «تحالف» لأننا لم نتخذ الإجراءات الوقائية التى تضمن أن تظل العلاقة أقوى من أى محاولات التفخيخ والتى ستتكاثر وستضرب بعنف فى الفترة القادمة.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -