لن تدُرك قيمة ثورتك إلا إن عرفت موقعها من التاريخ
---
لما خرج الحسين، ابن بنت النبي، مع أهل بيته، إلى الكوفة، كان قلبه يُدرك أنه ذاهب إلى مصرعه، في كربلاء، ولكنه كذلك كان يعلم أنه ينبغي لأحد أن يقول في وجه يزيد بن معاوية: "لا … المسلمون لا يُوَرثون … لا يوجد في دولة الإسلام ملك … لإن الرعية غير مملوكة لأحد"
فهم الحسين أن الله قد كتب عليه من دون الناس أن يكون هو رمزا لدولة الحق، يرفع رايتها حتى يُقتل، لعل الله يبعث من بعده جيلاً يفهم أن الإسلام لا يريد للناس حكم الملوك ... وقد طال انتظار هذا الجيل حتى ظننا أن الناس لم تفهم لماذا ثار الحسين
---
كادت رائحة الغاز تخنقه وأصوات الطلقات الهادرة تزيد من توتره، ويضطر في كل مرة للانحناء خوفاً من أن تصيبه إحداها، وهو يكره الانحناء، بينما تزيده هتافات الثائرين ثباتاً، ولما هدأت عينيه بعد أن غسلها أحدهم بالخل، وجد أمامه ضابط شرطة، يعرفه. تذكره لما كان يقف في مظاهرة ضد التعذيب قبل بضعة شهور وتذكر ما قاله الضابط وقتها متهكماً: نحن أسيادكم ... اتركوا البلد لو كان الحال لا يعجبكم ... فصرخ عندئذ في وجهه: هذه بلدنا ولن نتركها إلا على جثثنا
ورآه الضابط بعد أن هدأ الغاز وتذكر نفس الموقف السابق قبل أن يأمر الجنود بتوجيه بنادقهم ناحيته، وبإطلاق النار
---
للمُلك قصة في بلاد المسلمين … من بدأه؟!، وكيف استمر لمئات السنين؟! … كيف تناسى الناس قول عمر: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتم أمهاتهم أحراراً" وقرروا أن يكونوا ملوكاً على الناس … يملكونهم … كيف غضوا أبصارهم عن راية الحسين "أن الملك لله وحده، بينما الحاكم يدير شئون الناس ولا يملكهم" … كيف أطاع الناس معاوية وولده يزيد وقد جاءا بأسوأ بدعة في تاريخ المسلمين ... بدعة المُلك ... الملك يأمر ويجب على الرعية أن تطيع … لأنها جزء من مُلك الملك الذي جاء من نسل الملوك
---
عندما فُتحت مكة، مال أبو سفيان على أذن العباس، عمّ النبي، وقال له: "والله يا أبا الفضل لقد أصبح "مُلك" ابن أخيك اليوم عظيما"، فصحح له العباس وقال إنه ليس المُلك ولكنها النبوة
كان أبو سفيان مصراً أنه مُلك وأن الشعوب مملوكة للحكام، ولكن العباس كان يعلم أنها النبوة والخلافة؛ الحاكم فيها لا يملك أحداً، بل يعمل من أجل الرعية
وجاء من نسل أبو سفيان ابنه معاوية، فقاتل علي بن أبي طالب من أجل أن ينهي الخلافة ويبدأ دولة الملك، وصمد عليّ حتى قُتل، وبايع المسلمون الحسن بن علي للخلافة، فنازعه عليها معاوية بن أبي سفيان، حتى تركها الحسن له دون قتال
"وأراد معاوية أن يورث المسلمين لابنه، فيقضي تماماً على الخلافة ويبدأ عهد الملوك، ومهد لابنه أيما تمهيد، ولكن وقف الحسين بالمرصاد وصدح بالحق:"المسلمون لا يُورثون … المسلمون غير مملوكين لأحد
حتى قُتل هو وأهل بيته -أهل بيت النبي - في كربلاء
---
كانت أصوات الرصاص لا تتوقف وتقترب، وبكى رغماً عنه وهو يحتضن أهل بيته، أمه وزوجته وأولاده، جالساً في أبعد غرفة عن باب منزله، ويستغيث بالله طالباً الرحمة، وهدر بأذنه صوت طلقات قريبة، داخل منزله، وصرخ الرضيع، فوقفت زوجته وقالت وهي تغالب عصبيتها وجسدها يرتجف: إن كان سيقتلنا بعصابته المرتزقة لأننا أقسمنا أننا لن نكون عبيدا لأحد بعد اليوم، فلنكن إذن كذلك
نظر لها من بين دموعه، فقالت: قف كرجل، كما وقف الحسين في وجه يزيد
وقف معها ووقفت أمه وأولاده، وسكن الرضيع، واقتحم المرتزقة باب الغرفة وأطلقوا الرصاص
---
في ليله مقتله وقد منعوا عنه الماء، جلس الحسين يداوي ابنه العليل، وأنشد شعراً متألماً ودمعت عيناه، وسمعته أخته زينب بن علي بن أبي طالب فخرجت إليه حاسرة وقالت: وا ثكلاه! اليوم مات جدي رسول الله وأمي فاطمة الزهراء وأبي علي وأخي الحسين … فليت الموت أعدمني الحياة … وسقطت مغشيا عليها فحملها وأدخلها الخيمة وهو عازم على أن يصدح بالحق ولو كان وحيداً
لأن النبي صلي الله عليه وسلم أرادها خلافة على منهاج النبوة … لا يُملك المسلمون فيها لأحد … فكان لابد للمُلك عندما أراد أن يقتل الخلافة أن يقتل معها أهل بيت النبي …
قُتل أهل بيت النبي، ورُفعت رؤوسهم على الحراب، وتركوا الجثث ملقاة على الأرض لا يدفنوها … ومروا بنساء بيت النبي أمام الجثث ليتلذذوا بتعذيبهن ... حتى صاحت زينب وهي ترى جثث أهلها: يا محمداه! … هذا الحسين بالعراء وبناتك سبايا وذريتك مقتلة
ثم ثارت المدينة المنورة ضد المُلك … ضد يزيد … فأرسل إليهم جيشاً يدعوهم لمبايعة يزيد على أنهم "خول له يحكم في دمائهم وأموالهم ما شاء"
هكذا أرادها يزيد … مُلك … يحكم في الناس كيف يشاء … فاستمرت ثورة أهل المدينة … فقتل منهم ما قتل … ويروي ابن قتيبة أنه قتل منهم نحو عشرة آلاف منهم نحو ألف وسبعمائة من المهاجرين والأنصار
---
احتمى بالمسجد من قذائف الطائرات، وهدأت نفسه قليلاً، ونظر حوله فإذا المكان يمتليء عن آخره، النساء والأطفال والرجال والشيوخ، الكل يبكي متأثراً من هول ما حدث بهم، وصاح أحدهم: نحن لا نحني رأسنا إلا لله
وأراد هو أن يطمئن الناس فقال: لا تخافوا ... أنتم هنا في بيت الله ... هذا مكان يخاف أن يسفك الطاغية وجنوده فيه الدماء
ثم عاد هدير الطائرات، وسقطت القذائف على المسجد فدكته دكاً
----
مرت بضع سنوات بعد مقتل الحسين والحجاز يثور ضد الملك .. ضد بني أمية … حتى جاءت أيام عبد الملك بن مروان … فأراد أن يجبرهم على القبول بالمُلك … فحاصر مكة وضرب الكعبة بالمنجنيق والنيران … وهُدمت الكعبة
إن الملك، لكي يحل محل الخلافة، ويملك رقاب الناس بالقوة، قتل آل بيت النبي ومثل بجثثهم واستباح أعراض نسائهم وقتل الصحابة من المهاجرين والأنصار ثم هدم الكعبة … كل هذا ليقضي على الخلافة ويغير نظام الحكم في دولة الإسلام
ليت أبا سفيان قد وعى عبارة العباس بأنها النبوة، ليته علمها لولده وحفيده أن الله يحبها خلافة على منهاج النبوة، ولكن صدق حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
"تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت"
ارتفعت رؤوس الناس في عزة لما حُكموا بالخلافة، وصاروا عبيدا لما رضوا بالمُلك
---
وكان عبيد الله بن زياد والي الكوفة هو من أرسل الجيش ليقتل الحسين قبل بلوغه الكوفة، وجاءه رأس الحسين، فأخذ ينكث بين ثناياه، وكان عنده "زيد بن الأرقم " وهو من أصحاب رسول الله، فصاح به
ارفع قضيبك عن هاتين الثنيتين … فوالذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الشفتين يقبلهما
وبكى
ثم خرج من عنده وأخذ ينادي في الناس غير حافل بشيء:
إنكم معشر العرب العبيد بعد اليوم … إنكم العبيد بعد اليوم
فلما نعى الحسين في الكوفة، صعد عبيد الله بن زياد على المنبر وخطب في الناس: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب بن الكذاب الحسين بن علي وشيعته"
فلم يتحملها شيخ ضرير هو عبد الله بن عفيف الأزدي فصاح : يا ابن مرجانة! أتقتل أبناء النبيين وتقوم على المنبر مقام الصديقين… إنما الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه"
لو كان هذا الموقف حدث في عهد الخلافة لما مس الشيخ الضرير أذى … لكن الخلافة انتهت وبدأ المُلك … حيث لا معارضة … حيث لا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن … فصُلب الشيخ الضرير لأنه تجرأ علي الوالي
---
لم يُغير يزيد بن معاوية من دين الناس ... لم يُغير من قوانين الإسلام .. لم يُغير من الحدود ... لكنه غير من هدف الدولة الإسلامية ومعنى وجودها ... غير من دستورها ... ولهذا ثار عليه الحسين …
في عهد الخلافة كان الخليفة يأتي بعد بيعة الناس له، أي بموافقة الناس، وإذا سحب الناس بيعتهم رحل في صمت ودون أن يعترض، لكن جاء عهد الملوك لتنفرد أسرة واحدة بالحكم ويُجبر الناس على مبايعتها
وبعد أن كانت بيعة المسلمين للخليفة هي مصدر قوته صارت قوة الخليفة العسكرية هي من تأتي بالبيعة له، حتى أن الإمام مالك يوم أن قال إن بيعة المسلمين للخليفة المنصور غير صحيحة لأنها جاءت بالجبر، جُلد وخُلعت كتفه. وصار إجبار الناس على القبول بالبيعة هو عادة الملوك تتخذ أشكالاً مختلفة آخرها هو الاستفتاء بنسبة ٩٩.٩ في المائة
كان الناس متساوون في الخلافة، لا فرق بين حاكم أو محكوم، فجاء عهد الملوك فصاروا هم في مرتبة أعلى من الناس، وحاشيتهم كذلك، وصارت قوانين الدولة تنطبق على العامة لا عليهم، ويوم أن رفض الإمام أبو حنيفة تولى القضاء لأنه يدرك أن الخليفة يريد أن يتلاعب بالقضاء من خلاله … جلده الخليفة حتى كاد يموت
لم يعد الحاكم محاطاً بأهل الخبرة والحكمة، أهل الحل والعقد، بل صارت حاشية تطمع في الفتات الذي يتساقط منه، لأنه صار يعتقد أن بيت المال هو بيته، وأن أموال الدولة هي أمواله الخاصة، وهكذا تحولت فتوحات المسلمين من هدفها الأسمى في عهد الخلفاء، وهو إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. فأصبح هدف الفتوحات في عهد الملوك هو جلب مزيد من أموال الخراج والضرائب والجزية ليزيد مُلك الملك أكثر
لهذا كله ثار الحسين … أدرك ببصيرته أن تغير نظام الحكم في الإسلام من الخلافة على منهاج النبوة إلى مُلك مُتوارث سيصيب روح الفكرة السامية في مقتل…
غير أنه قد مرت مئات السنين ولم يستجب أحد لدعوته ... نعم تم القضاء على الدولة الأموية تماماً لكن الدولة العباسية لم تأت لإعادة الخلافة على منهاج النبوة بل جاءت لتملك رقاب الناس حتى قال خلفاؤها إنه لا يحق لأحد أن يحكم المسلمين إلا إن كان من نسل بني العباس ... وعُين الخليفة العباسي أحمد بن طولون واليا على مصر فقرر أن يستقل عن الخلافة العباسية ويأخذ مصر لنفسه ... أي والله يأخذها لنفسه وكأن الناس لعبة في يديه لا يهم إن كانوا قد بايعوه أم لا ... وكذلك فعل غيره في العديد من بلاد المسلمين ... وجاء الفاطميون والأيوبيون والمماليك والعثمانيون … أُسر تملك الناس … وجاء عصر الانقلابات العسكرية ... وجاء عبد الناصر والأسد والقذافي والسادات وبن علي وبشار ومبارك وغيرهم ... وادعوا سيادة الشعب بينما هم يملكون رقاب الناس بالبطش والقوة والتعذيب والمعتقلات … ونسبة ٩٩.٩ في المائة
----
"ورُوي في الأثر أن أحد الرعية دخل على هارون الرشيد و في يده شربة ماء فقال: ارايت إن حرمتك هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال بنصف "ملكي". قال ارايت إن حرمت خروجها منك بعد شربها فبكم كنت تشتري ذلك قال "بملكي" كله قال ابن السماك ملك لا يساوي شربة وبولة، فأشاد الناس بحكمة الأعرابي وبتقوى هارون الرشيد ونسوا أن هارون الرشيد كان يعتبرنا من "مُلكه" …
----
على مدار مئات السنوات الماضية، ثار العرب والمسلمون كثيرا ... لكنهم كانوا يثورون بسبب رفع الضريبة على الأرض الزراعية أو بسبب انتشار الظُلم أو لأي سبب آخر ... وكان الخليفة يستجيب لثورتهم أحيانا ويعزل الوالي أو يرسل إليهم جيشاً ليقتلهم ويردعهم ... لكننا لم نثر أبداً ضد المُلك ... لم يخرج الناس بعد مقتل الحسين ليعلنوا رفضهم للمُلك ويطالبوا بخلافة على منهاج النبوة ... ويطالبوا بحكم لا يملك الحاكم فيه رقابهم ولا يميز عنهم حاشيته ولا يعلوهم منزلة ولا يتلاعب بالقانون فلا يطبقه على نفسه ... لم يحدث هذا منذ مقتل الحسين وما تلاه من ثورة أهل الحجاز ... وكأن الناس لم تفهم سر وقوف الحسين مع آل بيت النبي أمام سيوف المُلك الباترة ... لم يفهموا ...
حتى خرج الربيع العربي من يأس البوعزيزي، ولأول مرة ودون أن يُدركوا، وجدوا أنفسهم يطالبون بنفس ما كان يطالب به الحسين قبل مئات السنين ... الناس لا يورثون والحكام ليسوا أفضل منا بل هم موظفون لدينا ... ولأول مرة منذ مقتل الحسين يأتي رئيس بالانتخاب الحر، باختيار الناس، ولا يعامله الناس كملك، ولا ينوون هذا…
---
رؤساء بلاد العرب والمسلمين بعد ثوراتهم … الحاليون أو القادمون … الوزراء … الحاشية … كل من له سلطة في هذا بلادنا … إننا جيل بحث عن مكان لثورته في التاريخ فلم يجد لها موقعاً أنسب من أنها استكمال لثورة الحسين … ثورة ضد المُلك داعية لمنهج حكم كالخلافة على منهاج النبوة … حيث لا يأتي الرئيس بالانتخاب الحر، ويرحل في صمت إن قرر الناس هذا، لا يملك الناس، بل يعمل عندهم مقابل أجر محدد، وخزينة الدولة ليست ماله الشخصي، لا يأخذ منها إلا بعد أن يثبت الغرض الذي سينفق فيه هذا المال، ولن نقبل بغرض إلا إن كان لمصلحة الرعية
إننا جيل يُدرك جيداً تاريخه، جذوره وحاضره، وقد رسم بنفسه مستقبله … إننا جيل يفهم ثورة الحسين … وقررنا أن نكون الجيل الذي سيستكملها … فإن كانت هذا الجيل قد غاب لما يقرب من ألف وأربعمائة عام فقد قرر أن يظهر اليوم …
إننا عندما هتفنا " الشعب يريد إسقاط النظام " كان الحسين في قبره يُدرك أننا نهتف بإسقاط المُلك من بلاد العرب والمسلمين
رؤساء بلاد العرب والمسلمين بعد ثوراتهم … أمامكم فرصة تاريخية لاستكمال ثورة الحسين وإسقاط المُلك … وأمامكم في طريق آخر غرض دنيء لاستكمال مسيرة الملوك … ونحن لن نسمح لكم إلا بما أراده الحسين … ولن نقبل إلا أن تكون هذه الأيام هي … آخر أيام الملوك!

0 التعليقات:
Post a Comment