مجدداً، تجبرنى أزمة وضع الدستور فى مصر على التوقف عن مناقشة مواد مسودة الدستور ومواصلة تشريح الأزمة والبحث عن سبل إدارتها، فالجمعية التأسيسية تحيطها الشكوك القانونية والسياسية ويغيب عنها وعن المسودة التى أنتجتها التوافق الوطنى، كما أنها تواجه سيف الزمن ووجودها قد يصبح والعدم سواء بعد 12 ديسمبر 2012 إن لم تنجز مشروعاً للدستور يقبل رئيس الجمهورية عرضه على المواطنات والمواطنين فى استفتاء. والرئيس، من جانبه، أكد على أنه لن يعرض للاستفتاء مشروعاً غير توافقى للدستور أو لم يحدث حوله حوار مجتمعى جاد ووافٍ، و«التأسيسية» تبدو أبعد ما تكون اليوم عن الأمرين.
كل هذه مكونات وعناصر أزمة خطيرة يواجهها وضع الدستور، ويزيد من خطورتها نزوع جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة وقوى أخرى للتقليل من شأنها والتحايل عليها، فخلال الأيام الثلاثة الماضية، وبعد حكم القضاء الإدارى، عمد أعضاء التأسيسية من الجماعة وحزبها إلى التشديد على أن مشروع الدستور سيكتمل قبل 12 ديسمبر وأن الرئيس سيعرضه للاستفتاء وأن التأسيسية مستمرة فى عملها على الرغم من إحالة القضاء الإدارى للقانون المحصن لإجراءات تشكيلها (قانون 79) للمحكمة الدستورية العليا.
وتواكب مع هذه المواقف التحايلية تصريحات للإخوان، بل ولبعض ممثلى التيارات الليبرالية داخل التأسيسية، تؤكد أن الخلافات بشأن مواد مسودة الدستور محدودة ولا يتجاوز عدد المواد المتنازع عليها بين الإسلام السياسى والليبراليين أصابع اليد الواحدة. هكذا تختزل إشكاليات كبرى فى بنية ومضامين مسودة الدستور إلى بضع مواد ويكتمل التحايل بإيهام الرأى العام أن نواقص الحقوق والحريات وغياب العدالة الاجتماعية وسلطات الرئيس شبه المطلقة سيتم تجاوزها فى القريب العاجل.
ويكتمل عقد التحايل على أزمة وضع الدستور بخطاب الأحزاب والتيارات السلفية التى لا ترى فى رفض الكثير من القوى الليبرالية للجمعية التأسيسية ولمسودة الدستور إلا مخالفة للشريعة وكراهية للمرجعية الدينية وحملة منظمة ضد هوية مصر الإسلامية.
خطاب السلفيين هنا والذى يوظف دوماً «كارت» الإرهاب الزائف «مخالفة الشريعة» (تماما كما يوظفه بعض رموز حرس الإخوان الحديدى) يتحايل على غياب التوافق الوطنى بشأن «التأسيسية» وعلى الانتقاص المنظم من الحقوق والحريات فى مسودة الدستور، والسلفيون يتحملون مسئولية كبرى عن الأمرين، بإخافة قطاعات الرأى العام المتدينة والمحبة للشريعة من خطر متوهم تتعرض له الأخيرة فى الدستور، وفى هذا غياب كامل للنزاهة بمعانيها الأخلاقية والسياسية، لا يختلف عن محاولة السلفيين داخل «التأسيسية» تجاوز المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان بادعاء مخالفتها للشريعة ومهاجمة الداعين للتمسك بالمواثيق والعهود هذه باتهامات مستمدة من عقود الاستبداد كالسعى للتدويل والاستقواء بالخارج.
لن يذهب بنا التحايل على أزمة وضع الدستور فى مصر بعيدا، والأجدر بالإسلام السياسى وبحرص على الصالح العام هو الاعتراف بوجود الأزمة وحلها عبر المشاركة فى حوار وطنى هدفه إعادة تشكيل «التأسيسية» وضبط آليات التصويت بداخلها وفقاً لأغلبية خاصة (أغلبية الثلثين) وربما التوافق على دستور مؤقت، وقد صدمت عندما قرأت ما قاله رئيس الجمهورية فى لقائه مع بعض ممثلى الأحزاب والقوى السياسية عن «التأسيسية» والدستور، فمفاده الوحيد كان إظهار وقوعه فى أسر مصيدة التحايل على الأزمة بمقولات التحايل هذا المتعددة.
وللرئيس أؤكد أن أزمة وضع الدستور تتجاوز بضع مواد خلافية فى المسودة ولا تنحصر فى رفض بعض الليبراليين للجمعية التأسيسية، بل هى تعبير عن شكوك قانونية وسياسية كثيرة تحيط بالجمعية وبالدستور فى ظل غياب توافق وطنى.
للرئيس أؤكد أن دوره الآن كالمسئول المنتخب الأول هو إدارة الأزمة والبحث عن حلول غير تحايلية لها، وأن دفعه فى سياق حوار وطنى جاد باتجاه إعادة تشكيل التأسيسية وتغيير آليات التصويت بداخلها لا يعد تجاوزاً لسلطاته أو لصلاحياته. هذه مسئولية الرئيس المنتخب، وشرط الاضطلاع بها هو أن يكسر الدكتور مرسى طوق التحايل على أزمة وضع الدستور الذى تصنعه جماعة الرئيس وحزبها وحلفاؤها.
هذه فرصة الرئيس، إن أراد، لكى يكتسب استقلالية نسبية إزاء جماعته وحزبه ويدفع فى قضية جوهرية هى الدستور باتجاه غير مرحب به فى دوائر الهيئتين، إلا أنه مخرج حقيقى من أزمة خطيرة ومحل قبول واسع سيعطيه مصداقية تمثيل كل الوطن.
هذا، إن أراد الرئيس ومعنى الإرادة دوما هو الرغبة والقدرة.
عيد أضحى سعيد علينا جميعاً وعلى الإنسانية فى كل مكان.
0 التعليقات:
Post a Comment