قبل أن تنفجر غضبا وإدانة لأطباء مصر الذين قرروا الدخول فى إضراب أمس تذكر جيدا أن هؤلاء هم الفئة الوحيدة فى مصر التى نجحت وحصلت على العلامة الكاملة فى اختبار ثورة ٢٥ يناير.
لو كنت ممن تعطرت أقدامهم فى مشاوير الحج إلى ميادين الثورة ستعرف أن هؤلاء النبلاء هم الذين اقتطعوا من أموالهم وتركوا أسرهم وبيوتهم وصعدوا إلى «التحرير» ليقيموا عيادات على نفقتهم الخاصة فى أرض الميدان، ليضمدوا جراح المتظاهرين ويوفرون لهم الرعاية الصحية بالمجان.
لقد كانوا هم خط الدفاع الأول أمام بشاعة الهجمات الأمنية المسلحة على الملايين التى خرجت تنادى من أجلك بالتغيير وإسقاط الفساد والاستبداد، وكان معظمهم من الطبيبات والأطباء الشبان الذين لا يزيد دخلهم عن أجرة تاكسى إلى الميدان كل يوم، ولم نسمع لأحدهم صوتا فى المطالبة بمقابل بطولاتهم النبيلة، بل كانوا بحق مثل الملائكة فى الميدان.
وتسجل ذاكرة الثورة قصص العشرات من الأطباء الأبطال، منهم من قضى نحبه ومنهم من فقد عينيه، أحمد حرارة دفع عينا فى يناير والأخرى فى نوفمبر وهو صامد على أرض ميدان التحرير، ومنهم من سقط فى القبضة الأمنية الغشيمة وتعرض للتعذيب والإهانة.
هؤلاء يا سيدى هم من تمتد إليهم ألسنة التجريح والسباب الجاهل لأنهم اتخذوا قرارا جماعيا بالتعبير عن مطالبهم المشروعة عبر وسيلة قانونية أقرتها جميع المواثيق العالمية الخاصة بحقوق العمل وحقوق الحياة.
هؤلاء الذين صبروا وثابروا وحاربوا معركة الثورة فى ظروف عصيبة، لم يغلقوا المستشفيات، ولم يتركوا المرضى يئنون من المرض ويذهبون للنوم فى بيوتهم، لم تشهد مصر فراغا طبيا وصحيا فى فترة انفلتت فيها كل الجهات الحكومية، فعشنا بلا شرطة ولا نقل عام، وحدهم الأطباء الذين صمدوا ولم يخلعوا معاطفهم البيضاء، كما فعل آخرون خلعوا زيهم الرسمى، وشاركوا فى فوضى الانفلات الأمنى بدلا من أن يسيطروا عليها.
لقد نشرت قبل أسابيع رسالة من طبيب شاب يعرض فيها مأساوية أوضاع الأطباء فى مصر، وعجزت المساحة عن استيعابها كاملة وكان من ضمن ما قال هذه السطور الموجعة:
الشرطه ماتحملتش المظاهرات وكسرة العين وقعدوا ف بيوتهم وانتشر البلطجية ف الشوارع وكانت ايه النتيجة؟ بيتم تكريمهم ويزودولهم المرتبات عشان مايزعلوش ياعينى
الاطباء دايما واقفين ومتحملين والنتيجة ان الناس تتعدى عليهم اكتر والبلد تدوس عليهم زيادة.. انت عارف كام زميل ليا اتفتح عليهم مطاوى أو اتشتموا واتهانوا ف المستشفيات؟
انا شخصيا ف مرة تبادلت السباب بأقذع الالفاظ مع مريض سافل تطاول عليا لانى كنت بفحص حالة تانية وهو عايزنى اسيبها واشوفه هو.. وهكذا».
هذا جزء صغير من رسالة طويلة، ويبقى أن نتساءل مع الأطباء الغاضبين: ألم تقم ثورة ٢٥ يناير من أجل العدالة الاجتماعية، وتحسين حياة الناس بإصلاح الأجور، وتسييد قيم العمل والإتقان؟
قبل أن تلوموا الأطباء اسألوا الذين اخترعوا لنا أسوأ مفردة فى قاموس الثورات وهى «الفئوية»
إنها قضية مصر كلها وليست قضية أصحاب البالطو الأبيض.
0 التعليقات:
Post a Comment