تكريم اسم الرئيس الأسبق أنور السادات ومنحه قلادة النيل فى مناسبة الاحتفال بذكرى 6 أكتوبر قرار صائب له دلالته التى ينبغى أن نتوقف عندها ونعتبر منها. كما أنه لا خلاف على أن تكريم الفريق سعد الدين الشاذلى رئيس الأركان آنذاك يعد ردا لاعتباره وإنصافه بعد الظلم الكبير الذى تعرض له.


إلا أن تكريم اسم السادات يظل موضوعا للخلاف، على الأقل بالنسبة لقطاع عريض من المثقفين الوطنيين. وقد فهمته بأنه تكريم لقرار الرجل خوض الحرب وليس لسياسته بشكل عام. ذلك أننى أزعم أن ذلك القرار هو النقطة الوحيدة المضيئة فى سجله، فى حين أن بقية صفحات السجل عليه وليست له، خصوصا إقدامه على معاهدة السلام مع إسرائيل.


من هذه الزاوية أزعم أن تكريم اسم السادات فى مناسبة ذكرى حرب أكتوبر هو أيضا من قبيل المصالحة مع التاريخ، التى تذكر للرجل فضله ولا تنكر عليه الإنجاز الذى أقدم عليه، حتى وإن جاء منقوصا. وأحسب أن تلك المصالحة هى التى دفعت الرئيس محمد مرسى إلى توجيه التحية إلى الرئيس جمال عبدالناصر فى مؤتمر قمة عدم الانحياز الذى عقد بطهران، اعترافا بدوره وفضله فى إقامة ذلك التجمع النبيل، الذى يعد بدوره نقطة مضيئة تحسب له. وذلك مسلك يستحق التقدير تصرَّف فيه الدكتور مرسى باعتباره رئيسا للدولة، وليس عضوا فى جماعة الإخوان المسلمين، لأننى أعلم أن الحرس القديم من الإخوان على الأقل لا يذكر عبدالناصر بالخير، ولم ينس له ضرباته الموجعة التى وجهها إلى الجماعة فى عامى 1954 و1964، التى قادت آلافا منهم إلى السجون والمعتقلات وأوصلت بعضا منهم إلى المشانق.


لست من أنصار قراءة التاريخ والحكم عليه انطلاقا من الحسابات والمشاعر الخاصة، لأن للأوطان مصالح عليا ينبغى أن تكون المعيار الأول فى الحكم على هذا الرئيس أو ذاك. وبمعيار المصالح العليا ينبغى أن يعطى قرار حرب أكتوبر حقه فى الذاكرة التاريخية، بقدر ما أن عبدالناصر يذكر له تمسكه بالاستقلال الوطنى وانحيازه إلى الفقراء واعتزازه بانتمائه إلى الأمة العربية. علما بأن تسليط الضوء على تلك الجوانب بنبغى ألا يلغى الجوانب الأخرى فى مرحلة كل منهما.


كنت قد أشرت إلى ما خص عبدالناصر فى الفقرة السابقة حين دعوت قبل أيام قليلة فى 30/9 الماضى إلى عدم ابتذال اسمه فى المساجلات والتجاذبات الجارية فى مصر الآن، وقلت إن الوفاء للرجل يدعونا إلى التمسك بالقيم التى ناضل دفاعا عنها، ومنها ما ذكرت توا. وحين نشرت المقالة تلقيت تعليقات كثيرة ركزت على الوجه الآخر من تجربة عبدالناصر، وبعض القراء أعربوا عن دهشتهم مما كتبت بالنظر إلى ما أصاب أبى وأسرتى وما أصابنى شخصيا فى عهده (عاتبنى زميل لى جمعتنا زنزانة واحدة فى سجن مصر ثم السجن الحربى). واعتبرت ذلك من آثار تغليب الخاص على العام، رغم أن ما قالوه صحيح وما قلته أنا عن إنجازات عبدالناصر على الصعيد العام صحيح أيضا، وربما لاحظت أننى لم أشر إلى الديمقراطية فى حديثى عن القيم التى دافع عنها عبدالناصر، لأن الرجل لم يكن ديمقراطيا.


شىء من هذا القبيل فعلته فى وقت سابق حين كتبت عن مصطفى كمال أتاتورك محرر تركيا ومؤسس نظامها الجمهورى. ذلك أننى ظللت لأكثر من عقدين من الزمان نافرا من الرجل ومقتنعا بشيطنته. استنادا إلى ما قرأته من كتابات حول ما فعله بالإسلام والمسلمين فى بلده بعد إلغائه للخلافة الإسلامية فى سنة 1924، لكننى حين اقتربت أكثر من التجربة التركية أدركت الوجه الآخر لدوره كقائد فذ ووطنى غيور أنقذ بلده من الانهيار بعد الحرب العالمية الأولى. ولم يكن هناك من تفسير لطمس حسناته وفضائله سوى أن الذين شيطنوا الرجل قرأوه وقدموه متأثرين بمشاعرهم وأهوائهم الخاصة الأمر الذى دفعهم إلى تجاهل الدور الوطنى الكبير الذى قام به.


هذه المدرسة ليست جديدة فى الكتابات التاريخية. سواء عند العرب والمسلمين الذين كتب بعضهم التاريخ متأثرا بتحيزاته العرقية أو المذهبية، حدث ذلك أيضا مع الغربيين أنفسهم خصوصا فى تسجيل بعضهم لسنوات اجتياحهم لبلدان آسيا وأفريقيا فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، الذى وصفوه بأنه استعمار من العمران بينما وصفه المفكر الجزائرى مالك بن بنى بأنه «استحمار».


أختم بملاحظتين: أولاهما أننا فشلنا فى التصالح مع بعضنا البعض، ولا أقل من أن نتصالح مع تاريخنا على الأقل فيما يتعلق بجيلنا. والأمل معقود على الأجيال الجديدة من مختلف التيارات السياسية أن تتقدم إلى الساحة متطهرة من مرارات الماضى ورواسبه. عساها تنجح فيما فشلنا فيه. أما الملاحظة الثانية فهى أننى حاولت أن أكون منصفا مع الرئيس السابق حسنى مبارك، وأنفقت وقتا غير قصير فى البحث عن صفحات بيضاء له، لكننى لم أجد، وبعدما ضاقت بى السبل صرت بحاجة إلى «صديق» يرشدنى، ولم أجد بين الذين أعرفهم أحدا قادرا على أن يقوم بالمهمة!

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -