أحسب أن المطلب العاجل فى مصر الآن هو وقف المزاد المنصوب فى الساحة السياسية. هذا إذا أردنا أن نحل الأزمة لا أن نعمقها، وأن نلملم الصف ولا نفرقه، وأن نحقن الدماء لا أن نواصل نزفها. أعنى بالمزاد ذلك الصخب الذى يقوده بعض المتحمسين الذين استثمروا هياج الغاضبين وساروا يهتفون داعين الرئيس مرسى إلى الرحيل، ومعلنين أن الشعب يريد إسقاط النظام، ومصرّين على اطلاق الثورة الثالثة، بعد إشهار ما أسموه البطاقة الحمراء فى وجه الرئيس، وهى التى تعنى فى أعراف مباريات كرة القدم طرد اللاعب من الملعب.
وإذا كان ذلك شأن بعض المعارضين، فإن آراء المؤيدين أو فريق «الموالاة» لم يخل بدوره من المزايدة. فليس صحيحا أن الاعتراض على شرع الله هو المستهدف من المظاهرات التى خرجت، ومن المعيب حقا أن يتحدث آخرون عن تطهير مصر من العلمانيين والملحدين. ومن الخفة والكسل العقلى أن يردد نفر من المتحدثين باسم الموالين عن ان كل ما يجرى على أرض مصر ليس سوى مؤامرة مدبرة من الخارج.
لا أظن أن مزايدات الموالين تحتاج إلى مناقشة لان الغلو فيه مكشوف، فضلا عن أن عقلاءهم يستهجنونه، لذلك أحسب أنه لا يستحق أكثر من الإشارة السريعة. ليس فقط لما تتسم به من خفة مستنكرة، ولكن أيضا لأن مزايدات بعض المعارضين تحتل حيزا واسعا من التغطية الإعلامية. سواء فيما يردده المعلقون فى الصحف، أو فيما يتحدث به بعضهم فى الحوارات التليفزيونية. ومما يجدر ذكره فى هذا الصدد أن بعض عقلاء المعارضين استنكروا نداءات الغلاة، وقال أكثر من واحد منهم انهم لا يتبنون الدعوة إلى إسقاط الرئيس، ولكنهم يطالبونه بتصحيح اخطائه من خلال الرجوع عن بعض قراراته.
بالمقابل ينبغى أن نعترف بأن هناك فريقا من المعارضين لا يريدون للأزمة أن تحل، ويهمهم أن يستمر التصعيد أطول مدة ممكنة، غير مبالين بما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات تصيب استقرار البلد أو اقتصاده أو سمعته الدولية. والذى لا يقل خطورة عن ذلك انهم لا يقدرون تصور السيناريو ما بعد الرحيل الذى ينشدونه، فى ظل رياح الفوضى العارمة المتوقعة فى هذه الحالة، إضافة إلى حالة التربص التى تحيط بثورة مصر الآن. وهو الذى يفتح الأبواب واسعة لعديد من الشرور والانتكاسات التى لن تصيب ثورة مصر وحدها، وانما تستهدف الربيع العربى كله، بكل تجلياته التى تبدت فى العالم العربى من أقصاه إلى أقصاه.
بين هؤلاء وهؤلاء لابد أن نصوب النظر نحو جموع الشباب الذين صنعوا الثورة واستحضروا الحلم على الأرض، وهم الذين لم يتنازلوا عن حلمهم بعد، وحين غضبوا وخرجوا إلى الميادين والشوارع فلم يكن يشغلهم إسقاط رئيس الجمهورية ومطالبته بالرحيل، وإنما ظل شاغلهم هو كيف يمكن أن تستمر الثورة متخطية فى ذلك العقبات التى تعترضها، وقد رأوا فى ممارسات الرئيس مرسى وفى أخطاء جماعة الإخوان بعضا من تلك العقبات التى يتعين إزالتها.
لا نستطيع أن نتجاهل ان الغلاة وراكبى كل موجة يحرصون على اختطاف هذه الكتلة من الثوار الغيورين على مستقبل البلد وحلمه، وهم لا يكفون عن توظيف غضبهم وحماسهم فى التصعيد وتأجيج الحريق. فى هذا الصدد ينبغى أن يسجل ان الأخطاء التى وقع فيها الرئيس كانت من أهم العوامل التى ساعدت على تجميع هؤلاء مع غيرهم فى مربع واحد، ولذلك فإن إعادة الفرز بحيث يتوجه الخطاب إلى أبناء الثورة دون غيرهم، وينحى الغلاة والمزايدين بعيدا تظل من الحكمة السياسية المرتجاة.
للأسف فإن أصوات الغلاة والمزايدين تجاهلت الإشارات التى بدت إيجابية فى خطاب الرئيس مرسى الأخير (الخميس 6/12)، وهى التى تبنت فى إعلانه عدم تمسكه بالمادة السادسة من الإعلان الدستورى، وفى دعوته إلى الالتقاء بممثلى القوى السياسية للنظر فى خطوات المستقبل ظهر السبت (أمس)، والإشارتان فتحتا ثغرة يمكن من خلالها النظر فى امكانية مراجعة ما صدر من قرارات أو ما اتخذ من خطوات. وهو ما تأكد لاحقا حين تسربت أنباء أكدها نائب الرئيس المستشار محمود مكى على استعداد الرئيس لتأجيل الاستفتاء والنظر فى امكانيات التوافق حول خطوات المستقبل. إلا أن الغلاة والمزايدين اغمضوا أعينهم وصموا آذانهم ولم يحاولوا استثمار الفرصة لدفع الأمور نحو الانفراج والتوافق، مؤثرين ان يستمر التأزيم والتصعيد.
لقد قلت فى مناسبة سابقة إن أداء الرئيس يحتاج إلى ترشيد لأن بعض قراراته أفضت إلى مشكلات ولم تحل مشكلات، فى الوقت ذاته فإن أداء القوى المعارضة ينبغى أن يتسم بالمسئولية والترشيد، وأحسب أن رفضها للحوار حول المخرج من الأزمة الراهنة يعبر عن افتقادها للاثنين.
0 التعليقات:
Post a Comment