من يموّل من ولماذا؟ فى هذا السؤال يكمن جوهر ثنائية المال والسياسة، ودون إجابة واضحة عليه قوامها القواعد القانونية والممارسات العملية لا تقوم للديمقراطية الحقيقية قائمة، أو تظل السياسة دوماً عرضة لخطر سيطرة أصحاب الأموال وممثلى المصالح المالية الكبيرة والملتحقين بهم عليها. لذلك، تعمل الكثير من الدول الديمقراطية، فى معظم الأحوال عبر سلطاتها التشريعية والقضائية، على التطوير المستمر للقوانين المنظمة لثنائية المال والسياسة، وتعمد لتشديد تطبيقها العملى وإلزام كافة أطراف الحياة السياسية باحترامها. وهناك ثلاثة مساحات رئيسية وتقليدية تظهر بها مفاعيل ثنائية المال والسياسة هى تمويل الأحزاب السياسية والإنفاق الانتخابى وتأثير جماعات الضغط المعبرة عن المصالح المالية على السياسات العامة.

وفى مصر، وعلى الرغم من وجود قواعد قانونية تنظم تمويل الأحزاب والإنفاق الانتخابى، فإن السرية ومخالفة القانون وغياب العقوبات الرادعة تغلف مجتمعة ثنائية المال والسياسة بسياج خطير يتناقض بالكامل مع الجوهر الديمقراطى ويباعد، هنا أيضاً، بين الحياة السياسية وبين الشفافية والنزاهة الضروريتين لتمكين المواطنات والمواطنين من الثقة بها وبمن يشارك بها. فمن جهة، يشترط قانون الأحزاب علنية التمويل ويضع مجموعة من القيود على تلقى التبرعات من الشخصيات الاعتبارية (الشركات والمؤسسات وغيرها) ويحظر التمويل الخارجى. إلا أن القانون يصمت عن تحديد سقف مالى أعلى للتبرعات المقدمة من شخص بعينه أو مجموعة أشخاص بعينهم، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام سيطرة أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة على الأحزاب السياسية. وفى الممارسة العملية، لا يعلن العدد الأكبر من الأحزاب المصرية بشفافية عن مصادر تمويله وحجمها وأوجه إنفاقها، ويتهرب بعضهم دوماً من التعامل بوضوح مع الشكوك المحيطة بتلقيهم تمويلات خارجية، ولم تقم إلى اليوم لجنة الأحزاب السياسية المخولة صلاحية مراقبة التزام الأحزاب بالقواعد القانونية بجهد حقيقى للتخلص من سرية التمويل ومن الشكوك المتراكمة فى وجود مخالفات لا يكشف عنها ولا يعاقب عليها بصورة رادعة.

من جهة ثانية، وأيضاً على الرغم من النص صراحة فى قانون مباشرة الحقوق السياسية (فى الشق المتعلق بالانتخابات) على حدود عليا للإنفاق الانتخابى من قِبل الأحزاب السياسية والسياسيين غير الحزبيين وعلى ضرورة التزام الشفافية، إلا أن الإنفاق الانتخابى ظل طوال الفترة الممتدة من فبراير ٢٠١١ إلى يومنا هذا المسكوت عنه الأكبر فى السياسة المصرية. من استفتاء التعديلات الدستورية وانتخابات مجلس الشعب فى ٢٠١١ إلى الانتخابات الرئاسية واستفتاء الدستور فى ٢٠١٢، لم تعلن لا الأحزاب ولا الشخصيات المستقلة عن مصادر تمويل إنفاقهم الانتخابى وحملاتهم الدعائية ولا عن حجم التمويل الحقيقى، ولم يقدم للجنة الانتخابات كشف حساب ختامى واحد من حزب سياسى كبير بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية (باستثناء أحزاب الثورة مستمرة) ولم يقدم مرشح رئاسى واحد كشفاً مشابهاً بما فى ذلك المرشح الذى صار رئيساً. وما زال الكثير من البلاغات التى قُدمت للجنة الانتخابات والنيابة العامة بشأن مخالفة الأحزاب لقواعد الإنفاق الانتخابى دون تحقيق، وكذلك البلاغات التى تطال مرشحى الانتخابات الرئاسية ٢٠١٢.

من جهة ثالثة، يحيط غموض تام بدور جماعات الضغط المرتبطة بالمصالح المالية الكبيرة فى تحديد طبيعة ومضامين السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية فى المرحلة الراهنة. الثابت هو أن لجماعة الإخوان ولحزبها صلات باتت وثيقة بالمصالح ورؤوس الأموال الكبيرة، وأن نفوذ هؤلاء قائم وتأثيرهم فى صناعة السياسات العامة لا يستهان به. إلا أن الرأى العام لا يعلم الكثير من الحقائق هنا، وتغيب الشفافية على نحو يدفع قطاعات واسعة من المواطنات والمواطنين إلى تبنى تفسيرات تآمرية وتداول أحاديث «شاطر الإخوان ومالكهم ونداهم» وسيطرتهم على مفاصل صناعة السياسات العامة حين ترتبط بالمصالح المالية الكبيرة.

فى هذه المساحات الثلاثة الرئيسية، تمويل الأحزاب والإنفاق الانتخابى ودور المصالح المالية فى صناعة السياسات العامة، نحتاج لشفافية حقيقية وقواعد قانونية واضحة يتم الالتزام بها وتفرض عقوبات رادعة على المخالفين لها. دون ضبط لثنائية المال والسياسة لا ديمقراطية لنا ولا ثقة حقيقية للمواطنات وللمواطنين فى السياسة ومن يمارسها.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -