سآخذ بعضاً من وقتكم، لكن الموضوع مهم. قولوا باسم الله الرحمن الرحيم. وتعالوا نتعرّف على مواطن إيطالى مات من زمان اسمه أنطونيو جرامشى. المهم فى هذا الرجل أنه عمل نظرية، لم تطبّق كاملة فى أرض الواقع، لكنها مفيدة بشأن كيف يمكن للشيوعية محاربة الرأسمالية، ولكن الأهم بالنسبة لنا كيف يمكن لأنصار كل تيار فكرى وسياسى أن يواجهوا تياراً فكرياً وسياسياً مهيمناً أو يسعى للهيمنة.

من يدرسون تاريخ الفكر السياسى استفادوا من هذا الرجل فى ثلاثة مصطلحات مهمة على الأقل: الهيمنة الثقافية، حرب المواقع، حرب المناورة.

القضية ببساطة أن الرجل اختلف مع الفكر الماركسى السابق عليه القائل بأن الدولة الرأسمالية تسيطر على المجتمعات نتيجة سيطرتها على أدوات الإنتاج، أى الموارد الاقتصادية من أموال وثروات طبيعية. لكن هذا الرجل قال إن هذا غير صحيح كلياً. الدولة الرأسمالية تسيطر على المجتمع حين تسيطر على الأفكار من خلال تشديدها على أن أيديولوجيتها هى الأيديولوجية الوحيدة الصحيحة وما دون ذلك تخلُّف وخيانة وعداء للشعب.

دعكم من كلام «جرامشى» عن الرأسمالية، فكروا فيما يفعله أى نظام جديد يأتى إلى السلطة بعد حرب أهلية أو حرب استقلال بعد احتلال أو ثورة. سنجد أن النخبة الحاكمة الجديدة ستسعى، وهى غالباً تظن أنها تحمل الخير لمجتمعها، لفرض الهيمنة الثقافية على مجتمعها. وطالما أنها لا تجد من يمنعها من السيطرة على الدولة وعلى المجتمع فستضحى بالديمقراطية، اعتقاداً أن الديمقراطية فى ذاتها عائق لها عن أن تطبّق أيديولوجيتها. وهذا ما فعلته الماركسية اللينينية بعد ثورة 1917 فى روسيا، وما فعله كل من حكم مصر فى تاريخها المكتوب. ونتذكر أن الحقبة الناصرية قامت على افتراض أن الديمقراطية السياسية ستتعارض مع الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية (أى النهوض بأحوال الناس المالية والاجتماعية). ومن هنا كان كلام اللورد «أكتون»: «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة». وهو نفس كلام العقل الجمعى المصرى حين قال: «قالوا لفرعون إيه فرعنك، قال طلعت فيها وماحدش ردنى».

فكرة «ما حدش ردنى» هذه هى التى تقودنا إلى الهيمنة الثقافية التى يقول بها «جرامشى». وهو نفس المعنى الذى يقصده من يتحدث عن «الأخونة» بمعنى وصول الإخوان إلى مواقع السلطة المختلفة فتحدث أخونة للحكومة، «وبما أن مافيش حد يردهم» فسيمتد الأمر إلى أخونة الدولة، «وبما أن مافيش حد يردهم» فسيمتد الأمر إلى أخونة المجتمع. وهو امتداد طبيعى لأى أيديولوجية نشطة، فهى أقرب إلى السائل الذى يسيل ويسير ويتوغل فى كل ما يجد أمامه من فراغات، لأن «مافيش حد بيرده».

وبالمناسبة؛ أخونة الحكومة كمؤسسة سياسية منطقية فى ظل أى نظام سياسى ديمقراطى، إنما أخونة الجهاز البيروقراطى ومؤسسات صناعة الوعى والرأى العام (مثل السيطرة على المساجد عبر وزارة الأوقاف، أو السيطرة على أجهزة الإعلام والصحف عبر السيطرة على المجلس الوطنى للصحافة والإعلام المفروض تشكيله من شخصيات مستقلة وفقاً للدستور، والسيطرة على مؤسسات التعليم عبر السيطرة على المجلس الوطنى للتعليم والبحث العلمى المفروض تشكيله هو الآخر من شخصيات مستقلة وفقاً للدستور)، أو أخونة مؤسسات الدولة السيادية (من قضاء، وجيش، وشرطة، وخارجية وأجهزة أمنية أخرى)، كل هذه المظاهر تخرج بنا من أخونة الحكومة، إلى أخونة الدولة، إلى أخونة المجتمع، ومن ثم إلى الهيمنة الثقافية التى يحذرنا منها «جرامشى»: يعنى من الآخر السيطرة على ما يصل إلى بطنك من طعام، وعينك من مشاهد، وأذنك من أفكار، وهكذا.

نرجع لـ«جرامشى» ونسأله: طيب حين يصل أحد إلى السلطة ويقوم بعملية هيمنة ثقافية بتعبيره الذى اقتبسه من «لينين» أو بالأدلجة الثقافية وفقاً لـ«إيرك هوبسبوم» (فيلسوف آخر) أو الأخونة فى الحالة المصرية حالياً، نعمل إيه؟

السؤال الأول الذى يسأله «جرامشى» هو عن طبيعة المجتمع، وهل هو أصلاً متعدد ثقافياً وعرقياً ودينياً أم هو مجتمع متجانس على هذه المستويات؟ وبعيداً عن الدخول فى التفاصيل المعقّدة، نقول إن المجتمع المصرى متعدد، على الأقل أيديولوجياً. وباستعارة حذرة لتشخيصه لوضع الحركات المعارضة، خصوصاً فى الجنوب الإيطالى بعد الحرب العالمية الأولى، يرى «جرامشى»، مخاطباً الاشتراكيين والثوريين، أن الثوريين والمعارضين مطالبون أولاً بالوعى بآليات الهيمنة الثقافية، وأن يطوروا «حرب مواقع» لمنع القوى المهيمنة سياسياً (والتى تكون بالفعل سيطرت على مؤسسات الدولة) من السيطرة الفكرية على المجتمع، بما يخلق استبداداً جديداً.

يقول «جرامشى» إن حرب المواقع هى كفاح فكرى وثقافى يتصدى لنسق القيم الذى تفرضه القوى المسيطرة على الدولة كمقدمة ضرورية لنزع الهيمنة سياسياً واقتصادياً وثقافياً.

ينصح «جرامشى» هذه القوى المناوئة للساعين للسيطرة الأيديولوجية بأن يقوموا بإنشاء مؤسسات بديلة عن تلك التى تسيطر عليها الحكومة، سواء تربوية أو ثقافية أو إعلامية أو سياسية وحزبية إن أمكن ذلك. وهى كلها من مكتسبات الثورة فى الحالة المصرية ولها ظهير دستورى يدعمها.

ويعتقد «جرامشى» أن الانتقال من «حرب المواقع» إلى «حرب المناورة» التى تعنى النضال المباشر للسيطرة على السلطة يتم حينما تنتقل الهيمنة الثقافية ممن هم فى السلطة إلى من يعارضونهم، فيصبح مؤيدو المعارضين أكثر من مؤيدى الحاكمين.

وفى ظل دولة فاشية كما كان فى إيطاليا على عهد «جرامشى»، كان الشكل الوحيد للوصول إلى السلطة هو الانقلاب العسكرى أو الثورة الشعبية أو الاحتلال الأجنبى. لكن هذا ما لن نحتاج إليه إذا أدركنا أن حرب المناورة هى المناورة الحزبية والسياسية بالسعى لإقناع الناخبين بأهمية أن يمنعوا هذه الهيمنة الثقافية وتقديم البديل الديمقراطى الذى يضمن ألا تكون الديمقراطية أداةً تُستخدم مرة واحدة وينتهى دورها بعد ذلك.

طيب ليه أنا أكتب هذا الكلام؟

لأن ثورة 2011 ثورة عظيمة فى مدخلاتها، بائسة فى مخرجاتها (أى نتائجها)، وهذه المخرجات البائسة قد تكون مدخلات بائسة لثورة أخرى ستكون لها مخرجات أكثر بؤساً. وهو ما نسميه بثورة الجياع. أو ألا تكون هناك ثورة أخرى، وإنما تردٍّ شامل فى أداء كل مؤسسات الدولة والمجتمع. ونجد أنفسنا ننافس الجابون وكوت ديفوار وبوركينا فاسو فى الفشل السياسى والاقتصادى. هى ثورة بائسة فى نتائجها، لأن القائمين عليها تعاملوا مع بعضهم البعض مثلما تعاملوا مع «مبارك»: إما هو يكسب وإما ننحن نكسب، فخسر الجميع.

ثورة مصر، بل كل ثورات الربيع العربى، قد تكون أشبه بثورة 1848 فى فرنسا التى سرعان ما انتشرت فى بقاع كثيرة من أوروبا بما فيها الإمبراطورية الهابسبورجية وكانت لها تكلفة مرتفعة، لكنها كانت خطوة حاسمة وضرورية نحو تحرير العقل الأوروبى من كل محاولات الهيمنة الثقافية التى كانت تمارسها الكنيسة المتحالفة مع الملوك آنذاك. وهنا يكون المكسب هو إقامة نظام ديمقراطى سليم بلا هيمنة ثقافية لأحد وإنما تنافس أيديولوجى يترجم فى برامج انتخابية تترك للناخبين المفاضلة بين النُّخب المختلفة وما تمثله من رؤى مختلفة.

أما إذا انسحبت القوى المعارضة من المشهد الانتخابى، فأخشى أنها تختار مصيراً آخر، وهو مصير إيران، حيث كان من مخرجات ثورتها النهائية التهميش التام والكامل والشامل لأولئك الذين شاركوا فى الثورة من الإصلاحيين والليبراليين واليساريين. وتركوا الساحة فارغة تماماً للمرشد ومن معه كى يغيّر ما يشاء من قوانين ويصوغ الدستور بما يضمن ألا يفوز إلا من يؤمن بنفس الأيديولوجية الحاكمة التى تشكل الرافد الأساسى للهيمنة الثقافية.

لقد نجا الله مصر فى دستورها من أن يكون شبيهاً بالدستور الإيرانى فتكون الهيمنة الثقافية عبر الدستور؛ فما زال القضاء مستقلاً ومحيطاً بالعملية الانتخابية من جميع جوانبها بلا استبعاد مبدأى لأى مرشح على أساس دينه أو تديُّنه أو إيمانه بمبادئ حزبية أو أيديولوجية معينة، ولم يزل الجيش بعيداً عن الصراعات الأيديولوجية، ولم تزل حرية الرأى وحرية إصدار الصحف وتكوين الأحزاب والجمعيات مكفولة، ويدار الأزهر من قِبل هيئة كبار علمائه بلا تدخل فوقى من أى جهة سياسية، ولكن واقع السياسيين المعارضين البائس هو ما سيجعل كل هذا حبراً على ورق بأن يتركوا للمحافظين دينياً الهيمنة الثقافية، ولو لم يمنعهم أحد سيهيمنون. ولولا السدود والقناطر لاندفع الماء اندفاعاً يغمر به الأرض. ولو كان من وصل إلى السلطة هم اليساريون أو الليبراليون لسعوا إلى الهيمنة الثقافية كذلك.

إذن بعد كل هذه المقالة السخيفة الطويلة المزعجة، إنت عايز إيه؟

أتمنى أن يشارك كل من يستطيع المشاركة فى هذه الانتخابات من غير القوى المحافظة دينياً. ولكنها ينبغى أن تكون مشاركة عاقلة قائمة على حسابات حتى لا تتفتت الأصوات، مثلما حدث فى الانتخابات الرئاسية. ووجود أى نسبة من المعارضة السياسية داخل مجلس النواب سيكون خطوة مهمة نحو بناء القاعدة اللازمة ليحدث تعدُّد فى مراكز صنع القرار الآن، ولتداول سلمى للسلطة لاحقاً. أخشى ما أخشاه أن تكون المعارضة الحقيقية هى معارضة من بعض فصائل التيار الإسلامى لآخرين من التيار الإسلامى. ونتوقف عملياً عن التفاعل الجاد مع الأفكار المعارضة القادمة من التيارين الليبرالى واليسارى.

هل تتوقع أن تنصت لك المعارضة وتخوض الانتخابات المقبلة؟

الإجابة بالنفى؛ لا المعارضة بتسمع ولا الحكومة بتركز. ولنا الله.

أُمال واجع دماغنا ليه؟

أهو نسلى نفسنا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

1 التعليقات:

  1. مقال رائع يا أستاذ معتز , ولكن حتي لو دخلت المعارضه الانتخابات الفشل مصاحبها ده أكيد لانهم اولا غير متفقين كلو بيدور ع مصالح شخصيه التجمع الي هما فيه حاليا دي مرحله مش اكتر ثانيا هما غير واصلين للشارع بالعكس يمكن الاخوان ليهم أسالبهم الي نعترض عليها او نتفق لكن واصلين جداا للناي وبالاخص فئات معينه من المجتمع

    ReplyDelete

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -