لا تبعث على الارتياح أو الاطمئنان المعلومات المنشورة عن ملابسات وفاة الناشط السياسى محمد الجندى. ذلك أن «صحيفة الشروق» نشرت فى عدد الاثنين 11/3 ان نيابة قصر النيل قررت تشكيل لجنة ثالثة للتدقيق فى أسباب وفاته، بعدما تبين أن ثمة تناقضا بين ما توصلت إليه مصلحة الطب الشرعى فى فحصها لأسباب الوفاة، وبين ما انتهت إليه فى هذا الصدد اللجنة الثلاثية التى ضمت عددا من الخبراء من خارج المصلحة. وكانت مصلحة الطب الشرعى قد ذهبت فى تقريرها إلى أن الجندى مات جراء إصابته فى حادث سيارة. أما اللجنة الثلاثية فإنها قررت بعد فحص الجثة أن الوفاة نتجت عن التعرض للضرب المبرح على الجسم والرأس، الأمر الذى أدى إلى إصابة الجندى بكسور فى الضلوع والقدمين، إضافة إلى معاناته من نزيف حاد فى المخ أفقده الوعى لعدة أيام، قبل أن يفارق الحياة.
حسب النص المنشور فإن رئيس مصلحة الطب الشرعى الأسبق، السيد أيمن فودة، أرجع ذلك التضارب فى التقارير إلى قلة الامكانات وغياب الأجهزة المعملية لدى المصلحة.
لأن هذا الكلام لم يصوب أو يكذب منذ نشره يوم الاثنين الماضى وحتى اليوم، فإن ذلك يسوغ لنا أن نتعامل معه باعتباره صحيحا. وهذا الافتراض يسمح لنا بأن نقول إن المعلومات الواردة فيه تصدمنا بقدر ما انها لا تفاجئنا. تصدمنا لأنها تعطى انطباعا بأن مصلحة الطب الشرعى التى هى جهة حكومية برأت ساحة الشرطة، فى حين أن الخبراء المستقلين والمعينين من الخارج كانوا أكثر حيادا وشجاعة، ولم يترددوا فى إثبات التعذيب بحق الشاب محمد الجندى، بل ذكروا تفاصيل الإصابات التى حلت به جراء التعذيب. حتى التبرير الذى ساقه رئيس الطب الشرعى الأسبق جاء صادما لنا أيضا، لأن ضعف امكانات المصلحة لا يبرر تجاهل آثار التعذيب الظاهرة على الجثة، ثم إن ذريعة الضعف تلك تفتح الباب للشك والطعن فى بقية تقارير الطب الشرعى، لأن ما حدث بحق الجندى لا يستبعد أن يكون قد حدث مع غيره من الضحايا، الذين ربما برئ قاتلوهم ومعذبوهم بغير وجه حق.
هذه الخلاصة لا تفاجئنا لأن لنا خبرة طويلة فى سياسة تحكم جهاز الأمن فى كل الحلقات المتصلة بأنشطته، بحيث تحولت كل العناصر التى تباشر تلك الأنشطة إلى أذرع للأمن، تنفذ سياساته وتحمى ممارساته وتتستر على أخطائه وجرائمه، والطب الشرعى يمثل إحدى هذه الحلقات، كما أن أطباء السجون يمثلون حلقة أخرى، ورجال التحقيق والنيابة يعدون حلقة ثالثة. إذ عند هؤلاء جميعا وفى حالات استثنائية معدودة، ظلت كلمة الأمن هى العليا، وفى تلك الحالات الاستثنائية فإن كل من تمرد على سلطة الأجهزة الأمنية أبعد عن الطريق ورفع عنه الرضا.
لا نعرف ماذا ستقول اللجنة الثالثة التى تشكلت من خبراء مستقلين ونظائر لهم يمثلون مصلحة الطب الشرعى، لكن الذى نعرفه جيدا أن سياسة الأجهزة الأمنية التى استمرت لنحو نصف قرن لا يتوقع لها ان تتغير خلال أشهر معدودة أو سنتين. والذى نعرفه أيضا أن تلك السياسة لابد لها أن تتغير بعد الثورة، لأن استمرار التعذيب فى السجون والتلاعب فى تقارير قتل الناشطين يشكل وصمة عار فى جبين الثورة، وما لم يتوقف التعذيب باختلاف صوره فإن ذلك يعنى إجهاض أهم أحداث الثورة المتمثلة فى الدفاع عن كرامة المصريين وحرياتهم.
نعرف كذلك ان إرادة تغيير تلك السياسة لم تتوافر بشكل كاف بعد، فقد تمت تبرئة الأغلبية الساحقة من رجال أمن الدولة الذين اتهموا فى قضايا التعذيب، كما اننا لم تشهد تعاملا حازما مع الذين اتهموا فى قضايا قتل المتظاهرين، ناهيك عن تمييع مسألة القناصين الذين استهدفوهم من فوق أسطح البنايات. وذهبت حملة التمييع إلى حد محاولة توجيه أصابع الاتهام إلى عناصر حركة حماس، لإقناعنا بأن الحركة التى كانت من أكثر المتحمسين والمستفيدين من الثورة هى المسئولة عن قتل بعض أبنائها.
إن قضية الشهيد محمد الجندى تختزل أزمة وزارة الداخلية بمختلف عناوينها صحيح أن خطوات عدة اتخذت لإقصاء عدد غير قليل من عناصرها وثيقى الصلة بسياسة المرحلة السابقة، لكن ثبت أن ذلك لم يكن كافيا. بقدر ما ثبت ان اعادة هيكلة الوزارة بالكامل باتت أمرا ضروريا لا غنى عنه وتأجيلها المستمر الضرر فيه أكثر من النفع.
إننى أخشى ان تخلص اللجنة الخماسية الجديدة إلى رأى يختلف عما توصلت إليه اللجنتان الأولى والثانية. وهو ما قد يضطر النيابة إلى تشكيل لجنتين رابعة وخامسة، وربما تحولت القضية إلى لغز يستدعى خبيرا أجنبيا لحله حين يكون الموضوع قد طواه النسيان. وتظل مشكلتنا قائمة ومتمثلة فى حاجتنا إلى شجاعة إعلان الحقيقة وعدم التردد فى محاسبة المسئولين عن التعذيب والقتل إذا ثبت، الأمر الذى يلقى فى وجوهنا بالسؤال: من يعلق الجرس فى رقبة القط؟
0 التعليقات:
Post a Comment