من حق أى مواطن من أية جهة فى مصر أن يطالب بما يراه حقوقا مشروعة له، غير أنه فى حالة إضرابات رجال الشرطة لا يعرف أحد على وجه الدقة ماهية هذه المطالب ولا مضمونها، فضلا عن أن التوقيت يبدو لافتا للغاية، وطريقة الاحتجاج تبدو غريبة وغير مسبوقة فى تاريخ الدولة المصرية.

والأكثر مدعاة للاستغراب هى تلك الحفاوة الكبيرة من أصوات الدولة العميقة بعودة الغياب الأمنى فى ربوع مصر، لكن ما يصدمك هو هذا التهليل والتصفيق من قوى ثورية لانكشاف مصر أمنيا، والتأييد الأعمى لتعليق العمل بالآقسام وقوات الآمن المركزى.

وهو فى الحقيقة تهليل لملامح سقوط الدولة وليس سقوط نظامها، وكأن بعضهم لديه الاستعداد للتضحية بكل شىء من أجل الإطاحة بالنظام الحاكم، بصرف النظر عن النتائج الكارثية لهذه التصرفات من قبل المنوط بهم حفظ دعائم الدولة والحيلولة دون الغرق فى قاع الفوضى والانفلات.

ومن عجب أن العتامة الثورية بلغت حدا انمحت معه الفواصل وتآكلت المسافات بين «معسكر الثورة» و«معسكر الأمن المركزى» بعد ثورة قامت أصلا ضد ممارسات الداخلية وانتهاكاتها الباطشة.

إنها العتامة ذاتها التى قلبت الشعار من «يسقط حكم العسكر» إلى استدعاء المؤسسة العسكرية للحكم وتحريضها على الانقلاب، من جانب تيارات صدعتنا بالحديث عن الدولة المدنية الديمقراطية، ولا تمانع هذه التيارات هذه المرة فى تغيير خطابها ومعتقداتها، على نحو يجعلها تتبنى «عقيدة الشرطة» بالكيفية التى تريد بها الأجيال الوسيطة فى هذا الجهاز فرضها على الجميع.

ولو أخذت فى الاعتبار أن هذه التحركات المباغتة من بعض قطاعات فى الداخلية تأتى قبل ساعات من النطق بالحكم النهائى فى قضية شهداء الأولتراس على ملعب بورسعيد، ومن ثم قررت هذه المجموعات أن تسلك على طريقة جماعات الأولتراس، فتستبق الأحكام باحتجاجات ووقفات وإضرابات ضاغطة على القضاء وعلى الدولة برمتها.

ولا يمكن وأنت تتأمل فى هذه الخطوات التصعيدية المفاجئة من قطاعات فى الشرطة أن تمنع نفسك من التفكير فى هذا الحضور الملحوظ والنشاط المفاجئ للدولة العميقة على الأرض، ومن العبث أن يسقط أحد من الحسابات أن قوى الثورة المضادة تطل برأسها على المشهد، من الخارج ومن الداخل أيضا، ولا يحتاج الأمر إلى مجهود كبير، فكلمات جنرال دبى عن «الثورة الجديدة على الثورة الأولى» لاتزال تدوى فى الأفق السياسى، فضلا عن أن أتباعه فى الداخل لا يتوقفون عن توفير الغطاء الإعلامى والسياسى لكل تحرك من شأنه أن يساهم فى هدم الوضع الحالى على رءوس الجميع.

مرة أخرى: هل فكرت القيادات المحركة لإضرابات الشرطة فى شكلها أمام المجتمع؟ وهل يأمن المواطن على نفسه تحت مظلة أمنية تحاكى سلوكيات الأولتراس وتضرب الأرض بأقدامها وتتركه فى عراء أمنى تام لكى تحصل على ما تريد؟

السؤال أخيرا: لماذا لم نجد مثل هذه الحفاوة وهذا الحماس من الأحزاب (الثورية) المتماهية مع الداخلية مع إضراب الأطباء حين طالبوا بأجر يضمن لهم الحد الأدنى من حياة إنسانية كريمة علما بأنهم لم يغلقوا المستشفيات ويذهبوا لبيوتهم؟

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -