كالعادة يصرّ البعض علي أن يضع لمصر معايير تخالف القيم الديموقراطية، وتقترب بها من مصاف جمهوريات الموز بدلا من أن يجتهد ليقربها لمصاف الدول الديموقراطية الحرة. وتزداد الغرابة عندما تسمع أولئك الذين ربما درسوا وعاشوا وعملوا في دول ديموقراطية وهم يناقضون ما درسوه وما عايشوه وما عملوا في ظله عندما يتحدثون عن الوضع السياسي في مصر.
وكانت الدعوات الأشد جفاء وغرابة دعوة البعض لعودة القوات المسلحة المصرية لمستنقع السياسة نصرة لفريق علي فريق أو تأييدا لوجهة نظر علي الأخري أو فرضا لسيناريو ديكتاتوري مستند علي فرض رموز سلطوية علي حساب سيناريو ديموقراطي قائم علي اختيار الشعب. وهؤلاء لو اجترأوا علي استدعاء تدخل جيوش دول أوربية يحملون جنسيتها في سياستها لكان ذلك سببا لإسقاط الجنسية عنهم ولاتهامهم بالتخلف، بينما يرون أن الدعوة لذلك نوع من النضج السياسي في بلد كمصر!
وربما يحتاج هؤلاء لمعرفة مصر أكثر.. ففي بداية العصر الحديث كانت مصر محافظة ضمن جسد هائل ضعيف هو الإمبراطورية العثمانية، ثم انتقلت سريعا خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر لتصبح دولة مستقلة ، بل ومشاركة بقوة في إدارة وصياغة النظام الدولي. حدث ذلك في الفترة من 7081 حتي 8381 بفضل نشأة الجيش المصري الذي تشكل من ابناء هذه الأرض الطيبة فشق طريقه فاتحا حتي بلغ جبال طواروس والبلقان والمورة والشام ومنابع النيل لا يوقفه شئ سوي مقتضيات السياسة أو دسائس الساسة.
ولا يعرف المزايدون علي قدر القوات المسلحة في الدولة المصرية مدي عشق هذا الشعب لجيشه وولاء هذا الجيش لشعبه. فهم يعتقدون أنها مجرد أداة غاشمة للقمع بيد حكام أو بيد فصيل سياسي، تُستخدم عند اللزوم لفرض الدكتاتورية أو للتحول إلي الدكتاتورية أو لفض نزاع سياسي بين فصيل وفصيل أو غير ذلك. أو أنهم لم يقرأوا تاريخ الدولة المصرية الحديثة الذي ينبئ بوضوح أن الجيش هو أحد ثوابت هذه الدولة وأن السلطة السياسية فيها هي من المتغيرات التي تتبدل وتتغير وتأتي وتذهب. وأن هذا الجيش العظيم لا يمكنه أن يرتبط بالمتغير وإلا لتهددت أركان الدولة، فمكانه دائما في صف حماية وجودها والدفاع عن أمنها.
وجاء تحرك الجيش إلي مجال السياسة علي مدار تاريخ الدولة المصرية قليلا، وفي ثلاثة مواقف فاصلة، الأولي فيها عندما شارك الحركة الوطنية خلال سبعينات القرن التاسع عشر وساهم في تشكيل أهم حكومة وطنية في هذه الفترة وإقرار أفضل دستور لمصر في فبراير 2881 والثانية عندما قاد حركة 2591 ليغير شكل الدولة المصرية من الملكية إلي الجمهورية ومن الاحتلال إلي الاستقلال والثالثة عندما رفع الغطاء عن نظام مبارك فسقط وأدار الدولة المصرية خلال سنة ونصف من المرحلة الانتقالية حتي تسليم السلطة ليد أول رئيس منتخب.
وفي كل مرحلة، ربما يلحظ البعض سلبيات، لكن الإيجابيات بالتأكيد كانت أكثر، والنتيجة النهائية كانت انتقالا للدولة المصرية من مرحلة لمرحلة أخري أكثر نضجا وتطورا. فيجب الا ننسي أن الدولة المصرية والشعب المصري انتقلا خلال مائتي سنة من حالة ذوبان في كيانات أخري لحالة تكوّن وتبلور، ثم استقلال وأخيرا تحول إلي الديموقراطية والنتيجة النهائية لمسيرة مائتي سنة هي نتيجة إيجابية، تسير فيها الدولة المصرية للأمام ويمضي الشعب المصري ليستعيد دوره الحضاري علي مستوي الإقليم والعالم. ولا يتم ذلك إلا في عقود طويلة، وربما في قرون، لكن مسيرة الشعب المصري هي أسرع من غيرها، إذا نظرنا لكيفية تشكيله لحالة خاصة وليست لحالة تابعة، أو انعكاسا لهجرات شعوب أخري كما في الأمريكتين أو استراليا.
وفي هذه اللحظة فإن الشعب المصري حقق قفزة جديدة للأمام، فبعد أن استعاد كينونته وتميزه، ثم أقام دولته وجيشه الوطني، ثم استعاد استقلاله وحريته، فها هو يتبني مشروعا ديموقراطيا ليستكمل المقومات الأساسية لتحقيق التقدم الذي يطمح إليه، والذي لا يتحقق في ليلة وضحاها ، وإنما استغرق منا مائتي سنة لنصل إلي تحقيق الحلقة الأخيرة في منظومة التحضر والمدنية واستعادة الذات، وهي حلقة النظام الديموقراطي. فثورة الخامس والعشرون من يناير، ليست بالتأكيد بناء أو إعادة بناء للدولة المصرية، فقد بذل الشعب المصري دماءه وعرقه ودموعه في بناء تلك الدولة، وإنما هي استكمال لمنظومة النهوض ومقتضيات الريادة.
وفي ظل هذه المرحلة التي يسعي فيها الشعب لبناء نظام سياسي ديموقراطي، يكون من العار أن يستدعي البعض القوات المسلحة مرة أخري للعمل السياسي ليعيدنا إلي الخلف، فهؤلاء إما أنهم ينظرونا لحاضرنا بعيون الماضي، كأولئك الذين لم يستطيعوا التخلص من نظارات فترة الستينيات، أو أنهم يروننا كما يرون جمهوريات الموز خلال حلقات السمر وصالونات المثقفين. بينما المثقف الذكي هو من يري المرحلة التي تمر بها دولته ويعبرها شعبه ويدرك مقتضياتها، ففي هذه اللحظة فإن أهم ما نحتاجه هو استعادة جيشنا العظيم لدوره كركن من أركان هذه الدولة، بينما السلطة السياسية هي الجانب الذي أصبح من المتغيرات بعدما تبنينا النظام الديموقراطي الحر، فالأحزاب التي تحكم مآلها يوما للمعارضة، وربما أن بعض من يعارض سيكون مآله للحكم، وسيجري التداول علي السلطة والتنافس في البرامج والأداء السياسي حتي ننسي يوما من حكم أول دورة ومن تلاه ثاني دورة، فذلك جزء من قيم الديموقراطية.
لكن القيمة المثلي والكبري للديموقراطية هي مبدأ ناصع لا يختلف عليه اثنان، وإن اختلف بعض مثقفينا علي تفسيره للأسف، وهو أن الشعب، الشعب وحده هو مصدر السلطة. ومن ثم فإن اختيار الشعب الحر هو ما يجب احترامه من كل أركان الدولة المصرية ومن كل الأطراف والأطياف والفصائل والأحزاب. ولم يعد مقبولا أن يحدثنا أحد أن للشعب أن يختار، بينما أن للبعض أن يغير هذا الاختيار، سواء باستعمال الحشود أو باستدعاء أرتال الدبابات.
وربما يغيب عن هؤلاء الداعين لعودة الجيش لمستنقع السياسة، أن التطور الذي لحق الفكر السياسي المصري هو نتاج لتطور الشعب المصري ذاته بكل فئاته، ومنها الجيش فهو جزء من هذا النسيج. إذ استقر في يقين كل مصري أن التحول الديموقراطي الكامل هو ما نحتاجه لتحقيق صعود سريع في مجالات الحضارة والعمران، وأن مخاض التحول الديموقراطي ككل مخاض، ترافقه آلام وتواجهه صعوبات، وأنه لا احدا ممن يؤمن بهذا الشعب وقدراته يسعي لمنع هذا المخاض، بمن في ذلك، بل وعلي رأس أولئك، قواتنا الجسورة التي ضربت المثل عبر التاريخ بأنها هي الجسر الذي تعبر بفضله أمتنا كلها من الهزيمة إلي النصر ومن التخلف إلي التطور. وفي هذه اللحظة فإن العبور العظيم الذي يحاول الشعب المصري تحقيقه هو عبور كامل للديموقراطية، تكون فيه السيادة للشعب والشرعية لنتاج إرادته.
وربما يغيب عن هؤلاء أيضا أن المرحلة القادمة، بعد أن يتحقق تحول كامل للديموقراطية، ستبدأ المعارك الكبري، اقتصادية وسياسية وعلمية وتكنولوجية، لاستكمال استعادة مصر لدورها التاريخي في المنطقة والعالم، وأنه سيكون دور القوات المسلحة المصرية حاسما في هذه المعارك. كما سيكون استقرار القيم الديموقراطية واحترام مفهوم شرعية الإرادة الشعبية أساسا للانتصار في تلك المعارك.
وأتمني علي الحالمين بأن تتلقي القوات المسلحة دعواتهم للعودة إلي صراعات السياسة بالفرح والحبور، أن يستعيدوا قليلا صفحات من تاريخ جيشنا العظيم، ليعلموا أنه مع هذا الشعب يدافع عن معني الشرعية، والتي أصبحت في هذه اللحظة هي شرعية اختيار الشعب وليست أية شرعية أخري يختلقها خيال مريض. وعلي الجميع أن يعلم أن هذه الدولة ذاهبة لتحول ديموقراطي كامل، وتطور اقتصادي مذهل، سواء رضي البعض أو استكثره البعض، وأن مفتاح كل ذلك هو الإصرار علي تحقيق الديموقراطية بكامل معانيها دون أن تخيفنا ادعاءات هيمنة فصيل علي مفاصل الدولة، فدولتنا أكبر من كل فصيل، أو ترعبنا دعوات عودة الجيش للسياسة فثقتنا بلا حدود في إدراك جيشنا لما يلفنا من مخاطر ولحاجتنا لتكريس معني الشرعية المستندة فقط لإرادة الشعب.
0 التعليقات:
Post a Comment