الأوضاع الضبابية والمضطربة فى كل من مصر وتونس واليمن، وربما تكون ليبيا حالة اسثنائية كدولة غنية منذ قيام الثورات بها قبل أكثر من عامين، أفرزت أشياء كثيرة وتغيرات هائلة سوف يكون لها انعكاساتها المستقبلية على هذه الدول وعلى دول المنطقة بشكل عام وعلى الخرائط السياسية والجغرافية التى يحاول الغرب الذى كان يحكم قبضته وما زال على سياسات واقتصاد كثير من هذه الدول أن يعيد هو رسمها بالشكل الذى يناسب مصالحه، لا سيما أن هذه الثورات قامت دون قيادات أو رؤى واضحة باستثناء التخلص من الأنظمة الديكتاتورية التى كانت تحكمها، غير أن أكبر المظاهر السلبية التى تفاقمت فى تلك المجتمعات فى أعقاب الثورات، وبدأت تشكل عنصراً مهدداً للثورات هى البطالة، فالاقتصاد تأثر بشكل كبير وأدى إلى أى انكماش المشروعات التى كانت قائمة والمشروعات التى كان يخطط لها، ومن ثم ارتفعت نسبة البطالة بشكل كبير، ففى مصر على سبيل المثال، أُغلق كثير من المصانع، وتوقف كثير من مشروعات الإعمار، وقبض الناس على ما تحت أيديهم من أموال انتظاراً لما سوف تسفر عنه الأيام القادمة، مما أدى إلى التخلى عن أى طموحات مرحلية، وقد انعكس هذا على زيادة عدد ونسبة العاطلين الذين يقدَّرون فى مصر وحدها بأكثر من أربعة ملايين عاطل، ما يقرب من 70% منهم من الفئة العمرية التى تقع بين 20 و29 عاماً، وهذا يعنى أن الوقود الرئيسى الذى يحرك المجتمعات، وهم الشباب، عاطلون عن العمل، فالمتزوجون من هؤلاء لا يستطيعون إعالة أسرهم، وغير المتزوجين فقدوا آمالهم فى الحصول على أى فرص للزواج أو تكوين بيت، والحال مشابه فى تونس واليمن، ومن ثم فليس أمام هؤلاء سوى الاحتجاج على أوضاعهم أولاً وعلى السياسات التى أوصلتهم إلى الحال المزرى الذى هم عليه.
إن تجربة خروج الإنسان من بيته صباحاً من أجل الحصول على لقمة العيش له ولأولاده وانقضاء اليوم دون أن يستطيع الحصول على قوت يومه تجربة مريرة ومؤلمة ومدمرة، تحوله إلى فريسة سهلة لكل شىء، والجوع يؤدى إلى الكفر، مما يدفع الإنسان تحت وطأة الحاجة والاحتياج لأن يقبل بكل ما يُعرض عليه القيام به أو التمرد والعصيان، وفى هذا الإطار لا أدرى مدى دقة قول أبى ذر الغفارى رضى الله عنه: «عجبت لمن لم يجد قوت يومه ألا يخرج شاهراً سيفه على الناس»، لذلك لا أستطيع لوم كثيرين ممن يخرجون كل يوم من بيوتهم، وكل أملهم أن يجدوا عملاً يدر عليهم دخلاً يحصِّنون به أنفسهم وأهاليهم من العوز والحاجة لا سيما إذا كانوا فى العمر الذى بين العشرين والثلاثين، وهو عمر العطاء القوى فى حياة الإنسان حينما يغضبون ويثورون، من ثم فإن القوى، سواء الداخلية أو الخارجية التى تعمل على تقويض الأوضاع فى هذه البلاد تجدها فرصة لاستغلال هؤلاء وأوضاعهم لمحاولة شراء ذمم ضعيفى النفوس منهم ومنحهم الأجر اليومى الذى ربما كانوا يتقاضونه فى أعمالهم مقابل أن يمارسوا التخريب وإغلاق الطرق والتظاهر الذى يُشل الحياة، حيث يمتزج الغضب الداخلى لديهم من سوء أوضاعهم مع المصلحة الشخصية فى الحصول على ما يسد قوت أبنائهم أو حاجاتهم الأساسية، من هنا فإن البطالة هى من أقوى الأسلحة المدمرة للثورات، وطالما بقيت هناك بطالة دون رؤى أو حلول عملية للقضاء عليها ولو على مراحل، فإن هذه الثورات سوف تبقى مهدّدة، لأن كل إنسان عاطل لديه مسئوليات فى الحياة يريد أن يلبيها، وفى مصر على سبيل المثال ما يزيد على مليون عامل يومية يخرج من بيته كل صباح يبحث عن عمل إن وجد أكل وأكل أولاده وإن لم يجد عاد صفر اليدين آخر اليوم وهو منكس الرأس يشعر بالذلة والمهانة التى يمكن أن يخرجها غضباً وسخطاً على هذا المجتمع الذى لم يمنحه الفرصة لتلبية حاجاته الأساسية، ورغم أن الدستور المصرى الجديد قد أوجب على الدولة أن تكفى حاجات الناس وألا يكون هناك عاطل دون مورد، فإن الوصول إلى هذه الدرجة من الكفاية الاقتصادية بحاجة إلى سنوات طويلة.. لكن الأمر الملح الآن كيف نقضى على البطالة حتى تنجح الثورة وحتى تبدأ عجلة الاقتصاد فى الدوران من جديد؟
0 التعليقات:
Post a Comment