قلت مرارا وتكرارا إن شباب مصر هم الضحية الأولى لحالة الاستقطاب التى سادت وعمت وانتشرت وطمت، لأعبر بذلك عن أن الشباب كانوا بحق الضحية الاولى لصراع السلطة والمعارضة، رغم أن هؤلاء الشباب مثلوا الطاقة الثورية الحقيقية لثورة 25 يناير أطلقوا شرارتها، وأكدوا أهدافها ومكتسباتها.
الشباب مثلوا تلك الشرارة الثورية لثورة عظيمة شكلوا من خلالها نموذجا متميزا ضمن نماذج الثورات فى التاريخ وفى الحاضر والمستقبل، وأكدوا بذلك حينما احتضنهم الشعب المادة الثورية وقدم الغالى والرخيص من النفوس فى محاولة لمواجهة النظام البائد المستبد الفاسد.
كنت دائما أقول إن الشباب هم من يدفعون الثمن وكانوا دائما وقود الثورة حينما سقط الشهداء وسالت الدماء فى ميادين مصر المختلفة، كان ذلك إيذانا وتأكيدا أن هذا الشباب رغم أنه ولد فى هذا النظام البائد إلا أنه كان الأشد فى شعوره بظلم ذلك النظام، حينما صادر حاضره وأوشك أن يصادر مستقبله، أكد هذا الشباب بحركته أنه لا يقبل الضيم وأنه بصدد رسم خريطة لمستقبل يختاره ويصنعه، يحقق به الأمل بكل ما يملكه من طاقة وعمل.
الشباب أراد بحق أن يؤكد تلك المقولة التى استبطنها فى عمله وأمله، فى تفكيره وتدبيره وتغييره حينما يؤكد أنه «إذا كان يمثل أكثر من نصف الحاضر فإنه يشكل كل المستقبل»، تآمر الجميع وتواطأ للأسف الشديد من نخبة سياسية إذا ما استحقت هذا الاسم ـ؛ سلطة ومعارضة على الشباب مكانة وتمكينا، وبدا الشباب عن عمد من كل هؤلاء يتواطأون عليه حتى توارت رموزه وأرادوا من كل طريق أن يئدوا أدواره، فقط استطاعت هذه النخبة أن تركب كل موجة للشباب وتصادرها لمصالحها ومصلحتها الآنية والأنانية، لتجعل من الشباب مادتها وهم الأحق بقيادة المشهد والموقف.
●●●
وفى هذا الاطار بدا الجميع يتواطأون على صناعة الإحباط لدى هذا الشباب؛ هذا الإحباط الذى حاول طمس طاقة الأمل التى حققها هؤلاء فى ثورة 25 يناير، ومن كتلة الإحباط التى تكونت بدا هؤلاء يشكلون طاقة احتجاجية هائلة على سلطة لم تحسن استثمار قدراتهم وعلى معارضة استغلت حماسهم وإحباطهم معا، وبدا كل هؤلاء يتعاملون معهم كما يشير إلى ذلك بالمصطلح أستاذنا الدكتور عبد الوهاب المسيرى حينما يتعامل هؤلاء مع الشباب كمادة استعمالية، وبدا الشباب فى كل مرة يُستخدم ويُلقى به فى آتون كل صراع وكل موقف يصدرونهم ويختفون وراءهم.
يختفى هؤلاء من ذوى الشعر الأبيض ومن النخبة المحنطة خلف الصفوف عند المغارم ويتقدمونهم عند المغانم، وفى هذا المقام سنرى الشباب يموت وتسيل دماؤه فى ميدان التحرير، وماسبيرو، ومحمد محمود، ومجلس الوزراء، والاتحادية، والمقطم، وفى كل ميادين المحافظات كانوا دائما ضحية هذا الاستخدام وضحية هذا الاستقطاب؛ يقدمونهم قرابين وهم يمارسون صراعا سياسيا تافها ومراهقا ينم عن تهافت المعارضة وتجاهل السلطة، وبدا كل هؤلاء يخوضون معركة بلهاء يوظفون فيها الشباب ما أرادوا، هذا يطلق شبابه، وذاك يوظف أبناءه، خطر كبير أن يكون الشباب مادة لهذا الاقتتال والاحتراب، الشباب يسقطون، وأصحاب الشعر الأبيض يبقون لم نر منهم شهيدا.
إنه الخطر الذى يحاول كل من الفريقين أن يقدم هذه القرابين وبغير حساب حتى إن البعض يدفع بالشباب أمامه يختبئون فى كنفهم تحت دعوى أن الشباب دائما يسبقوننا بتفكيرهم، يقدمون كالقرابين فى الميادين وأمام الاتحادية ثم بعد ذلك يتحدثون عن قتلانا وقتلاهم، لا يحسون بحرمة النفس التى حرم الله قتلها إلا بالحق، ليس من قتل النفوس من مارس ذلك عمدا وتربصا ولكن من أورد هؤلاء موارد التهلكة يداعب بذلك أحلامهم وآمالهم وشرفهم ونقاءهم وحماسهم ومبادراتهم.
إن الحديث عن الشباب ظل مرارا وتكرارا حديث الزينة، فإذا قيل لهم أين الشباب فى تكويناتكم وأحزابكم قدموا شابا أو اثنين، ولكنهم تصدروا دائما مشاهد الفضائيات والمؤتمرات طيلة فترة الإعداد أما إذا جد الجد وحمى الوطيس قدموا الشباب فى الفضائيات مقدمة لتقديمهم قرابين فى الميادين، حديث الزينة ذلك لم يعد يجدى فتيلا، وإن الأمور التى تتعلق باستراتجيات تمكين الشباب من الأمور المعروفة فى طريقها وفى ترسيخها.
إن المشهد الذى نريده من أجل ذلك الشباب هو تلك الوحدة بين أطيافهم بما مثلوه داخل الميادين وما قدموه من دماء يستحقون به صدارة المشهد حقا وحقيقة لا زينة وتزييفا.
●●●
إن المشهد الذى نراه يتكرر أمام أعيننا المرة تلو المرة يحدو بنا أن نتهم هؤلاء بأنهم لا يقدرون حرمة النفس سواء كانوا من هذا الفريق أو ذاك، وضمن هذه الرؤية تخرج خفافيش الظلام وتتحرك قوات البلطجية لتزهق روح شبابنا الواحد تلو الآخر ويبدأ العداد هذا شهيد الاتحادية، وهذا شهيد التحرير، وهذا شهيد محمد محمود، وهذا شهيد الشرعية، ما بالنا نوزع ألقابنا على شباب نزهق روحه ثم نضفى عليه صفات الشهادة ونتمسح فى دمائهم من دون أن نقوم بعمل حقيقى للقصاص لأرواحهم، نحن فقط نعمل فقط لإضافة مزيد من شهداء وإسالة دماء والدعاية بها.
يموت الشباب ويغنم الغانمون من سلطة ومعارضة غنم رخيص فى قبالة روح نفيس لا يمكن بأى حال من الأحوال أن نقبل أن يستمر هذا الوضع وأن يستخدم الشباب ضمن معارك بلهاء قمتم بها المرة تلو المرة وفى كل مرة يُقتل الشباب ويبقى الشيوخ يصادرون المستقبل، ويقتلون الأمل، إنهم بذلك -أقولها بملء فمى- إنهم يقتلون الثورة ويميتون فتوة الوطن.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
سقط من عيني.. الرجال مواقف
ReplyDelete