نتذكر الحديث عن الوظيفة السياسية للقاضى من كلام لأستاذنا الدكتور حامد ربيع، إلا أنه يجب أن نميز ومنذ البداية بين هذا المفهوم وبين ما يدور على الألسنة من تسييس القضاء.

فالوظيفة السياسية للقاضى شأن يتعلق بالوظيفة الاجتماعية والسياسية للقانون، وارتكاز مؤسسات العدالة على رؤية مجتمعية واضحة تعبر فى الحقيقة عن وعى القاضى بتحديات مجتمعه وبقدراته، بل إن الأمر يصل فى ذلك إلى أن يقوم القاضى بإرشاد مجتمعه إلى نقص تشريعى هنا أو هناك والتأكيد على معايير العدالة المنصفة فى رؤيته لمؤسسات المجتمع وقضاياه الأساسية، أما التسييس فهو عمل قد تقوم فيه المؤسسة أو بعض منها بدور تتبنى فيه موقفا سياسيا مغلقا وتحاول أن تدافع عنه وتصير قبيلة من القبائل.

بين هذا وذاك يولد قاض شامخ مقتدر، وقاض غير قدير مبتسر يبدو وكأنه منسحب من مجتمعه ولا يعيش فى محضنه، نتذكر كل ذلك بمطالعاتنا لحيثيات محكمة جنايات القاهرة لحكمها فى قضية التمويل الأجنبى لمنظمات المجتمع المدنى.

ونحن هنا لا نناقش الحكم فى منطوقه وتوابعه، ولكننا نحاول أن نتوقف عند بعض العلامات المضيئة التى أطلقتها هيئة المحكمة فى حيثيات حكمها برئاسة المستشار مكرم عواد وعضوية المستشارين صبحى اللبان وهانى عبد الحليم، هذه الحيثيات التى تعبر عن وعى سياسى حاد بطبيعة أزمة المجتمع المدنى والأهلى فى مصر، والتى افتتحت بمخاطبة كل الجهات المعنية بتشجيع الجمعيات الأهلية وجمعيات حقوق الإنسان التى لا تبغى سوى الحق والارتقاء بصرح الديمقراطية فى المجتمع بوعى ونية خالصة.

وأعقب ذلك دعوة قاطعة لطبعة نابعة للمجتمع المدنى والأهلى حينما تؤكد هيئة المحكمة على أن يتم تمويل هذه الجمعيات من الداخل حتى لا تحوم حولها الشبهة، أو يلعب بها الغرض لتعبر بذلك عن حقيقة أزمة التمويل فى المجتمع المدنى والأهلى والتى تعبر عن مدخل من مداخل الشبهة ومداخل الشيطان، أكثر من هذا فقد طالبت المحكمة بأصول قواعد المحاسبة والرقابة والمساءلة والشفافية بإجراء التحقيق مع المنظمات والجمعيات والكيانات التى طلبت تمويلا من بعض الدول العربية والأجنبية أسوة بما تم مع المنظمات المعنية.

بل إنها وصفت عملية التمويل تلك بأنها شكل من أشكال السيطرة والهيمنة الجديدة ولنتوقف عند هذا النحت البليغ حينما تؤكد أن عمليات التمويل ليست إلا «استعمارا ناعما» أقل كلفة من حيث الخسائر والمقاومة من السلاح العسكرى، تنتهجه الدول المانحة لزعزعة أمن واستقلال الدول المستقلة التى يراد إضعافها وتفكيكها، إن هذه الرؤية الثاقبة تعبر عن فهم حاد وبصيرة جادة للآثار المترتبة على التمويل الأجنبى للمجتمع المدنى والأهلى المصرى.

●●●

وبتعبير فاق كل الأوصاف لحال مصر وحقيقة الثورة المصرية فى الخامس والعشرين من يناير يؤكد على وضع القضية التى تتعلق بمؤسسات المجتمع المدنى والأهلى فى سياقاتها المجتمعية والسياسية؛ فتؤكد المحكمة فى حيثياتها إزاء تردى الأوضاع السياسية والمجتمعية فى مصر وإحساس الشعب بضعف ورخاوة الدولة وتفككها وأنه ترك مصيره فى يد جماعات سياسية «عصابة» تحكمها المصالح الخاصة ولا يحكمها الولاء للوطن.

اندلعت فى 25 يناير 2011 ثورة شعبية حقيقية لإزاحة هذا الركام عن كاهل الشعب المصرى وكسر قيود الهيمنة والتبعية والارتهان الإسرائيلى، فأوجس ذلك فى نفس الولايات المتحدة الأمريكية والدول الداعمة للكيان الصهيونى خيفة ورعبا، فكان رد فعل أمريكا أنها رمت بكل ثقلها ضد هذا التغيير الذى لم تعد آلياتها القديمة قادرة على احتوائه.

إن هذه التعبيرات الجازمة التى تعبر عن رؤية عميقة للارتباط بين الداخل والخارج إنما تعبر عن نظر ثاقب يضع المسائل فى نصابها ويقدم الوصف والتحليل الدقيق فى هذا المقام موضحا أن مسألة التمويل الأجنبى اتخذت أبعادا جديدة فى محاولة لاحتواء الثورة وتحريف مساراتها وتوجيهها لخدمة مصالحها ومصالح إسرائيل.

فكان من مظاهره تأسيس فروع لمنظمات أجنبية تابعة لها داخل مصر خارج الأطر التشريعية لتقوم بالعديد من الأنشطة ذات الطابع السياسى للإخلال بمبدأ السيادة وهو المبدأ المتعارف عليه والمستقر فى القانون الدولى ويعاقب عليه فى جميع دول العالم ومن بينها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.

ويأتى قمة الحس السياسى لدى هيئة المحكمة حينما تطالب وتذكر الجميع وتنعش الذاكرة الجمعية بسرعة إنهاء التحقيق مع كل من المتهمين الأجانب من الهرب لتعبر بذلك عن قمة المسئولية القضائية التى تعد جزءا لا يتجزأ من المسئولية العامة حينما تشير إلى حادثة مريبة يجب ألا تمر مرور الكرام حتى تكتمل أركان العدالة وأصول المحاسبة الناجزة والمنصفة وهى بذلك تشير ومن كل طرف إلى تلك المؤامرة التى أدت إلى تهريب هؤلاء المتهمين لتعبر بذلك أن العدالة لا تعرف من هو صاحب قوة أو وراءه دولة صاحبة سطوة.

●●●

وانتهت المحكمة فى حيثيات حكمها إلى أنه لا يتصور عقلا ومنطقا بأن لأمريكا أو لغيرها من الدول الداعمة للكيان الصهيونى أى مصلحة أو رغبة حقيقية فى قيام ديمقراطية حقيقية فى مصر، فالواقع والتاريخ يؤكدان أن تلك الدول لديها عقيدة راسخة بأن مصالحها تتحقق بسهولة ويسر مع الديكتاتوريات ويلحقها الضرر مع الديمقراطيات الحقيقية.

هذه الحيثيات المهمة إنما تقدم قراءة عميقة لنظام قامت عليه ثورة وهى تقدم المسوغات لمحاكمة سياسية بامتياز لنظام مبارك الذى أفسد ومرت هذه الجرائم من تحت بصره، وهذا الحكم إذ يمثل أبلغ تمثيل للوظيفة السياسية والكفاحية للقاضى حينما يعبر عن هموم مجتمعه ويرشد كل من يهمه الأمر إلى الإطار الذى يمكن أن يصاغ فيه قانون رصين للمجتمع المصرى والجمعيات الأهلية يعبر عن طبعة نابعة لا تابعة.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -