بين الغلبة والتغلب والمغالبة اشتراك فى جذر لغوى واحد لكنها جميعا تشير إلى حالة غير سوية بالخروج على القواعد المرعية والقوانين المرضية والإجراءات المقضية، التغلب حالة من الاستناد إلى جوهر القوة لا قواعد الحق وتجعل من القوة أساسا لشرعية مغتصبة لا شرعية تقوم على الرضا المجتمعى والسند القانونى.
التغلب أمر شهدته الخبرة الإسلامية حينما انقلبت معادلة القوة قبل الحق، لا الحق الحاكم للقوة، وصارت التوقف عند نماذج التغلب أمرا يشير إلى استخدام القوة وتحولها إلى سلطة قاهرة غالبة وهذا إنما يشكل رحما لكل الانقلابات العسكرية فى هذه الدول المختلفة التى نرى فيها كل شواهد التغلب ومؤشراته حينما يقطع العسكر الطريق على أى مسار توافقى أو سياسى أو مجتمعى ليشكل بذلك رغبة من مؤسسة القوة أن تكون لها الكلمة العليا واليد الطولى والقوة الطاغية التى لا معقب عليها تحكم وتتحكم، تأمر فتطاع، تعسف وتظلم ولا اعتراض.
•••
هكذا نرى انقلاب الثالث من يوليو الذى ارتبط بعد ذلك برئاسة مؤقتة هى بمثابة الستار الذى يحكم العسكر من ورائه، وحينما ترى هذه الرئاسة وقد تجمعت خيوط السلطات عندها وفيها (السلطة القضائية والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية) فإنها تشكل مع معادلات القوة التى يفترضها هذا التغلب العسكرى أن فرعون يسكن كل مظاهر القوة والتلويح بها أو البطش أو تكميم الأفواه وكل ذلك إنما يعبر عن حالة التغلب.
فماذا عن حالة الغلبة التى ترتبط بهذا التغلب فتعبر عن تعطيل للدستور وعن فرض رؤية تمثلت فى جانب منها فى فرمان دستورى وفى خريطة طريق لا معقب عليها مثلما أشار إلى ذلك المستشار الإعلامى بأنها خارج النقاش وخارج دائرة ما يمكن تسميته بالمصالحة.
إن عناصر الغلبة إنما تتمثل كذلك فى حل مجلس الشورى بجرة قلم أراد هؤلاء أن يعطلوا المواثيق وأن يحلوا المؤسسات وأن يعيدونا من جديد إلى نقطة صفر تبدأ بتغلب عسكرى وغلبة لا دستورية ومغالبة جديدة، فإذا كنا فى الماضى القريب كنا نشكو من أى حركة مغالبة من الإخوان ومن منظومتهم .
فإن المغالبة الجديدة إنما تشكل نمطا مركبا يتحرك صوب تغلب فى غلبة فى مغالبة، لتجعل هذا شأنا مركبا يحرك كل عناصر الفرعونية السياسية والقهر المستتر والظاهر واستخدام القوة والبطش والتلويح بالاعتقالات ومصادرة الأموال، وفى ظل هذه المغالبة فإن استعادة الأمن تعنى عودة المؤسسة الأمنية إلى سابق عهدها على عهد الرئيس مبارك المخلوع فتبطش وتطارد وتتعقب من غير رادع أو قيد قانونى.
بل إن الأمور تسير كسابق عهدها فى تلفيقات غير قانونية تتلبس بثوب القانون وإلقاء التهم جزافا وتحريك القضايا والتهديدات، الأمن هنا ليس إلا حالة ترويع فى محاولة لتطبيق المبدأ الأمنى الشهير «اضرب المربوط يخاف السايب»، وهى حالة مع هذا المسار الانقلابى إنما يعبر عن دعوة تجعل من الأمن القومى غطاء لها وما ذلك بقومى، وتجعل من دعوى شرعية ثورية جديدة يمارس فيها الطغيان باسم الاستثناء والمحاكمات الانتقامية باسم الحالة الثورية.
•••
تبدو تلك المغالبة فى حكومة جديدة قالوا عنها إنها تكنوقراط وما هى بتكنوقراط، وقالوا عنها وطنية بحكم الجامعية وما هى إلا لون سياسى واحد اختاروا بعضها من حكومات سابقة ومن توزيع المناصب ــ أقصد المغانم ــ على لون سياسى واحد انضم إلى العسكر ليشكل غطاء له فى علاقة مريبة بين تغلب ومغالبة ليحدث هذه الحالة الجديدة من الحالة المقيتة التى فى النهاية لن تورث إلا حالة من الانقسام المريع داخل الجماعة الوطنية وهو ما يعقّد بالضرورة حال المصالحة الوطنية أو متطلباتها السابقة لتهيئة لوسط وبيئة المصالحة.
أما المظهر الثانى من مظاهر المغالبة والغلبة إنما يتعلق بحالة إعلامية خطيرة تقوم على قاعدة من صناعة الكراهية والتشفى والزهو والغرور والغطرسة، حيث تتماهى كل هذه الصفات والسمات مع ذات الصفات والسمات التى تتعلق بانقلاب العسكر فأحدثت بحق انقلابا فى الخطاب مما أفرز لخطاب الانقلاب ليشكل مسارا خطيرا فى صناعة الكراهية وتقديم حالة من حالات العنصرية فى التعامل السياسى والمجتمعى وأقسى من ذلك دعوات من التطهير الثقافى والدينى لتيار بعينه فى التلويح بأن هؤلاء لا يصلحون لمسار المصالحة أو التفاوض أو التوافق ضمن آليات استبعاد جديدة تقود إلى عمليات استعباد أكيدة.
هذا الشأن لا يمكن قبوله بأى حال من الأحوال فى عملية مصالحة حقيقية وها هى المداورات والتبريرات تترى علينا حينما يقول البعض إن المصالحة لن تكون سياسية ولكنها وطنية والمصالحة الوطنية لن تكون كذلك إلا بمصالحة مجتمعية إن هذا الكلام الغائم العائم إنما يعبر عن تهرب من إجراءات مصالحة حقيقية يجب أن تبدأ من قرارات وإرادة سياسية حقيقية بما يمكن لشروط هذه المصالحة وبيئتها الحقيقية من دون استبعاد أو اقصاء.
•••
إن المشاهد الآن وبعد خطاب الكراهية المتبادل الذى صار يسود المشهد أدى إلى حالة من حالات الحروب الأهلية الفكرية التى طالما حذرنا منها وأكدنا خطورتها على لحمة وتماسك الجماعة الوطنية وليس فقط الجماعة الثقافية، عليك أن ترى كل مظاهر «الحركة المكارثية» فى عملية تطهير غير أخلاقية فى كل ما يخالف الرأى أو التطبيل والتزمير لحالة سياسية تسير إلى طريق الاستبداد والفرعونية وبدت الأوصاف تترى على كل من يعارض هذا المسار وهذا الطريق بحالة إرهاب فكرى وتوزيع الاتهامات وتحريض السلطات ليعبر بذلك عن أقسى درجات الاحتراب المجتمعى الذى لا يمكن بأى حال من الأحوال الحديث فى ظله عن المصالحة الوطنية.
•••
ألسنا بحق أمام تغلب فمغالبة فتغلب جديد؟ أخطر ما فيه أن المغالبة السابقة استندت إلى أكثرية أغلبية أما المغالبة الجديدة فتستند إلى تغلب عسكرى وغطاء مدنى وتغلب غير دستورى، لا خير فيكم إن لم تقبلوها ولا خير فينا إن لم نقلها.
0 التعليقات:
Post a Comment