الأناضول
بعد مرور شهرين على انطلاق اعتصامات مؤيدي الرئيس المقال محمد مرسي، تتواصل بإيقاع سريع جهود السلطات المصرية لمحو اثار الاستخدام المفرط للقوة في فض هذه الاعتصامات منتصف الشهر الجاري في كل من ميداني "رابعة العدوية"، شرق القاهرة، و"النهضة"، غربها.
ورغم أن العمل يجري علي قدم وساق لمحو تلك الأثار، إلا أن آثار الاعتصام وكذلك آثار فضه بالقوة لا تزال باقية كما رصدتها مراسلة الأناضول في جولة قامت بها.
فهنا وهناك، في رابعة والنهضة على حد سواء، ستجد حطاما لأشجار كانت تشكل مظلة للمعتصمين علي مدار 48 يوما - حتى فض الاعتصام في الـ14 من الشهر الجاري - قبل أن تحرق مع حرق خيامهم، وأجراء من احبال الخيام التي لا زالت مربوطة بجذوع نخل شاخت مع النيران، بينما بقت أطرافها تتمسك بالحياة، وكأن حالها من حال من شاركوا في الاعتصام.وستجد بقايا شعارات "الشرعية" التي طالما هتف بها المؤيدون للرئيس المعزول.
ومثلما كان ميدان "النهضة" هو الأسرع في فض اعتصامه، حيث لم يستغرق سوي ساعتين، كانت أيضا عملية محو أثاره الأسرع حيث "انتهت محافظة الجيزة الواقع في زمامها من رفع 90% من أثار الاعتصام، كما انتهت تماما من تجديد وتنظيف تمثال نهضة مصر" الذي يقع في مقدمة الميدان، وكانت شعارات مؤيدي مرسي قد طمست ملامحه، بحسب مسؤول بالمحافظة.
كما قامت المحافظة برفع المخلفات من ساحة الميدان والتي بلغت 6 اطنان، بحسب المصدر المسؤول نفسه، وتقوم كذلك بتجديد رصيف الشارع الممتد حتي جامعة القاهرة والذي يتجاوز طوله الكليومتر..
ويتوسط الشارع حديقة وسطي يتجاوز عرضها الستة أمتار، كانت تحتضن خيام الاعتصام، ويمتد النخيل علي جوانبها، لا زالت أثار الحرائق التي صاحبت فض الاعتصام بقوة ماثلة على الكثير من جذوعه، فبدت شاهدة علي الكثير والكثير من حكايات وقصص المشاركين علي الاعتصام وما تعرضوا له من إخلاء قسري صاحبه سقوط ضحايا.
وتساقطت من غالبية النخيل الممتد بطول الميدان أفرع البلح الذي كان قد اقترب من النضوج غير أنه لم يكتب له أن تكتمل دورة حياته تماما مثل الضحايا الذين تساقطوا من شدة الحرائق وكذلك من استشاق كميات الغاز المسيل للدموع.
وطالت النيران أيضا أرضية الحديقة التي تتوسط الميدان فجرفتها وأزالت خضرتها لتحل محلها آثار الحرائق إلا ان سلطات المحافظة شرعت بإغراقها بالمياه لمحو هذه الآثار.
وداخل الحديقة، تشاهد ما يشير إلي أن هذا المكان كان يحتضن أناسا لهم من القصص والحكايات الكثير.. فها هو مشط للشعر وبنطلون "جينز"، بل قطع من متناثرة من ملابس، وعلي بعد أمتار تجد دمي صغيرة تشير إلى أن هنا كانت تلهو طفلة مع اسرتها، وبجوارها حذاء يحمل مقاس 25 ما يعني أنه لطفلة لا تتجاوز الثلاثة أعوام على الأكثر.
الحديقة لا تزال تحمل الكثير من آثار حياة المعتصمين..فها هي نظارة عين ملقاة علي الارض وبجوارها كتاب يحمل عنوان "مأثورات" لحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، بينما يحمل سور حديقة "الأورمان" المطلة علي جانب من الميدان أثار لدماء ربما لمصابين أو قتلى. وامام سور الحديقة، تظهر على أكوام تراكمت من المخلفات أجزاء من صور للرئيس المنتخب وبجوارها تظهر كلمة "الشرعية" التي طالما هتف بها المعتصمون للمطالبة بعودة مرسي، مقتطعة من لافتات كانت تحمل شعارات علقت بين النخيل.
وفي احدي ممرات الحديقة، علقت بالأرض بقايا دماء تجمدت كأنها تقول: هنا دارت معركة "الشرعية".
وفي الطريق من ميدان النهضة إلي رابعة العدوية، تمر علي ميدان الثورة، أو ميدان التحرير الذي شهد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 ضد الديكتاتورية، تلك الثورة التي أسقطت حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي دام 30 عاما.
وخلال الثورة، وتحديدا يوم 28 يناير، وهو اليوم المفصلي في تاريخها الذي شهد سيطرة الثوار على ميدان التحرير، تم حرق عدد من المباني، وفي مقدمتها مبني "الحزب الوطني" الحاكم في عهد مبارك، والمطل علي النيل، وكذلك مبني مجاور يتكون من 11 طابقا، وكان يضم مقر "المجلس القومي لحقوق الانسان" و"المجلس الأعلى للصحافة" و"المجلس القومي للمرأة". إلا أنه، وعلي الرغم من مرور 30 شهرا علي الثورة، إلا أن الحكومات المتعاقبة منذ ذلك الحين، لم تقترب من ترميمها أو محو أثار الحريق وكأنها متروكة رمزا لثورة يناير، خلافا لما حدث مع "رابعة" و"النهضة".
وعند الوصول لميدان "رابعة العدوية"، يختلف المشهد تماما عما كان عليه خلال الاعتصام، حيث فتحت أمام حركة المرور جميع الطريق المؤيدة لطريق "النصر" الرئيسي الذي كان يعبر ساحة الاعتصام، في حين تجري عمليات الترميم ومحو الأثار علي قدم وساق تحت أشراف الجيش، وهي العمليات التي قدر محافظ القاهرة، تكلفتها بـ85 مليون جنيه (12 مليون دولار).
وتجمع أمام المسجد عدد من لواءات الجيش يشرفون بانفسهم ليس علي ترميم المسجد فحسب بل المنطقة المحيطة برمتها حرصا على سرعة إزالة أي أثر للاعتصام. ويتم بوتيرة سريعة اصلاح الارصفة، وكذلك محطة الوقود التي تقع علي بعد 500 متر من المنصة الرئيسية لساحة الاعتصام، وطالها حريق مسجد رابعة.
وبالاقتراب من المسجد، تجد الملامح قد تغيرت، فهنا كانت تقف فرق لجان التأمين الشعبية للاعتصام، وهناك، على مرمى البصر، كانت الخيام الممتدة بطول الطريق، وها هي المتاجر التي أغلقت ابوابها طيلة فترة الاعتصام نظرا لضخامة أعداد المعتصمين، تعود لفتح أبوابها.
وبمجرد عبور بوابة ساحة المسجد - التي يتم طلائها باللون الأخضر، ينتابك شعور بالخوف من أن تطأ قدماك أرض الحديقة المتجردة من الخضرة والموجودة على جانبي الساحة، خشية أن تكون رويت بدماء أو تحمل رماد جثث احترقت حتي الشواء، فحال فروع الشجر المحترقة حول المسجد تكشف عن حجم النيران التي التهمتها هي وغيرها.
وعلي بعد امتار من البوابة، تجد بقايا حقيبة أدوات طبية محترقة ومجموعة من الكتب تشير عناوينها إلي أنها كتب دينية، بينما تجد بقايا صفحات من المصحف الشريف محترقة علي الأرض، فيما توجد مجموعة أخرى من صفحات المصحف محترقة ومجمعه بجوار حائط المسجد.
وعى أطراف سور المسجد، تراكمت مخلفات يوحي لك شكلها وما تحتويه وكأنها آثار قصف حربي مكثف، فها هي مجموعة من الأحذية التي تشير إلي أن أسرة من الأطفال والنساء والرجال كانت تجلس هنا، وها هي عباءة امرأة ملقاة علي الارض وبها أثار دماء، بينما ملابس الرجال المتناثرة تشبه الاشلاء التي كانت متناثرة هي الأخرى في محيط المسجد يوم فض الاعتصام.
أكثر من مائة عامل داخل المسجد يقومون بعمليات الترميم، اقتربت مراسلة الأناضول من أحدهم للسؤال عن حال المسجد، فقال: "جسم وأساس المسجد بحالة جيدة، ونحن قمنا بإزالة كافة أثار الحريق وسننتهي من ترميم المسجد خلال شهر".
وعند الخروج من المسجد، اختفت تماما آثار المستشفي الميداني الذي كان على بعد امتار منه واستقبل الالاف المصابين من مؤيدي مرسي، سواء بأحداث "الحرس الجمهوري" مرورا برمسيس (وسط القاهرة) ثم أحداث "المنصة"، وكلها شهدت مقتل العديد من المعتصمين، وصولا إلى يوم فض الاعتصام حيث أعلن المستشفي أنه استقبل أكثر من 2600 جثة. ورسميا، أعلنت الحكومة المصرية أن أحداث فض اعتصامي رابعة النهضة لم تتجاوز الــ600.
وعلي البوابة الرئيسية للمسجد، يقف قائد عسكري تشير رتبته إلي أنه "لواء"، يقوم بالقاء الأوامر علي العمال للانتهاء من إزالة الأسوار القديمة للمسجد، وكذلك تجريف الحديقة بنفس طريقة "النهضة"، وهي اغراقها بالمياه.
وأثناء تفقد مراسلة الأناضول لمحيط المسجد، صادفت شابا يقف ممسكا بكتيب عليه دماء، فبادرته بالسؤال: ما بك؟ فأجاب: "هنا كانت خيمتي التي اعتصمت بها وهذا كتاب أحد ممن أقاموا فيها معي، ولا اعلم هل استشهد أم لا؟".
وعن سبب تواجده بمحيط رابعة العدوية بعد 10 أيام من فض الاعتصام، قال عبد الرحمن، ابن الـ24 عاما: "شعرت بحنين للمكان، فجئت من المنيا (جنوب مصر) لتفقده فلم أجده ميدان الاعتصام الذي كان يفوح بالإيمان، الأن أرضه امتزجت بها دماء الشهداء والمعتصمين السلميين" وأقسم مردفا: "والله لم يكن معهم سلاح، هؤلاء قتلوا غدرا".

0 التعليقات:
Post a Comment