لم أفاجأ حين قرأت على موقع توتير أن رجلا طلق زوجته بعد عِشْرة 12 عاما أنجبا خلالها طفلين، لأنه من أنصار الدكتور مرسى فى حين ان الزوجة تمسكت بتأييدها للفريق السيسى. ولم أستغرب ما سمعته من مثقف عربى كبير مقيم فى بيروت ويتردد على القاهرة بين الحين والآخر، إذ قال لى انه فى زياراته الأخيرة لاحظ تحولا كبيرا فى آراء أصدقائه من المثقفين القوميين والليبراليين الذين اعتاد ان يلتقى معهم. إذ وجد أنهم انتقلوا من موقف الناقد والمتحفظ إزاء التيار الإسلامى إلى موقف الرفض والقطيعة معه. وهو ما اعتبرته «طلاقا» من نوع آخر يجسد حالة الاستقطاب المحزن التى خيمت على الفضاء السياسى المصرى. ولئن عبرت عن ذلك أصوات الغلاة التى انتشرت فى وسائل الإعلام ولم تتوقف عن إذكاء الكراهية وتعزيز القطيعة، حتى أصبحت مصطلحات التعايش والمصالحة تستنفرهم وتصيبهم بالتشنج العصبى والسعار، إلا أن ما يدهشنا حقا أن يستسلم لتلك المواجهة بعض العقلاء والمحترمين. وهم الذين أبدوا استعدادا مذهلا للتحلى عن رصيدهم من الرصانة والمعرفة والحِسْ الأخلاقى الرفيع، حين يتعلق الأمر باختبار العلاقة مع الآخر.
لا يعد الأمر باعثا على الدهشة فحسب، ولكنه باعث على الحزن أيضا. لأن رهاننا ظل قائما على دور يقدم به العقلاء والراشدون فى الحفاظ على وحدة الجماعة الوطنية وتصويب مسيرتها بما يرسى سفينة الوطن على بر الأمان والاستقرار. إلا أن فجيعتنا فى بعضهم باعدت بيننا وبين ما كنا ننشده، حتى صار ذلك الأمل حلما بعيد المنال فى ظل المعطيات الراهنة.
كان من تداعيات تلك الأجواء أننا إذا قمنا بتحليل خطاب الأصوات العالية فى فضائنا الإعلامى فسوف نخرج بانطباع خلاصته أنه لا توجد فى مصر معارضة وطنية. وان الناقدين أو المعارضين للأوضاع القائمة أصبحوا يصنفون ضمن الخونة والعملاء. وهؤلاء إما انهم يتحركون فى اطار مخطط التنظيم الدولى للإخوان، أو أنهم ممولون من جانب تركيا أو قطر. ومن هذا المنظور فإن المؤيدين والمصفقين وحدهم يصبحون المواطنين الشرفاء و«الفرقة الناجية»، إذا استخدمنا المصطلح الشائع. الأمر الذى يدخلنا فى طور التكفير السياسى الذى لا يقل خطرا عن التكفير الدينى.
أعرف كثيرين من الوطنيين المخلصين الذين لهم نقدهم لتجربة الدكتور مرسى، ولهم تحفظاتهم على الأوضاع التى استجدت بعد عزله، لكنهم صاروا يؤثرون الصمت حتى لا تلاحقهم اتهامات العمالة والخيانة. والانخراط فى الطابور الخامس. هم ضد حكم الإخوان وضد حكم العسكر، وحزنهم على الذين قتلوا فى اعتصام رابعة ليس أكثر من حزنهم على الجنود الذين قتلوا فى سيناء. وتعاطفهم مع معتقلى حركة كفاية و6 أبريل فى مثل تعاطفهم مع معتقلى الإخوان. وأزعم أن هؤلاء هم أغلبية المواطنين الذين لم تتلوث ضمائرهم، بحيث صار كل همّهم ان ينتصر الوطن وان يهنأ أهله بالعيش المشترك، بأكثر مما يهمهم انتصار طرف على طرف أو احتكار طرف وتمدده على حساب إقصاء طرف آخر أو اقتلاعه، ومما يؤسف له ان الاستقطاب الحاد ضيق الخناق على هؤلاء، فحبست أصوات بعضهم ممن حرصوا على تجنب التجريح والاتهام، وحوصرت أصوات البعض الآخر ممن غامروا بالإعلان عن مواقفهم وقبلوا بأن يدفعوا ثمن المغامرة.
إن أحد التحديات الكبرى التى تواجه مصر فى مقبل الأيام هو كيف يمكن إزالة آثار الاستقطاب النكد، بحيث نطهر أجواء الوطن من حملات التسميم التى شوهت المدارك وأفسدت الضمائر، حتى أفقدت بعض العقلاء رشدهم وتوازنهم. ولا أعرف كيف يمكن ان نتوصل إلى «هدنة» توقف الحرب الأهلية الدائرة، بحيث يتاح لنا ان نلتقط أنفاسنا لكى نفكر فى كيفية استعادة التوازن والرشد. أدرى ان بيننا من يريدها حربا حتى النهاية، التى لا يعرف لها أجل ولا يعرف الثمن الذى سيدفعه الوطن جراء ذلك. أدرى أيضا أن بيننا من يحاول إعادتنا إلى سوال البيضة والدجاجة وبأيهما كانت البداية. لكننى أقرر بوضوح أمرين، أولهما ان الطرف الأقوى فى المشهد السياسى هو الذى ينبغى أن يبادر باتخاذ قرار الهدنة باعتبار ما يملكه من سلطان، أما الأمر الثانى فهو يتلخص فى ان إبادة الأفكار لا تنم بقرار أو مرسوم، ولم يحدث ان نجح فى ذلك أى سلطان، وانما التاريخ وحده الذى حكم على بعضها بالفناء وعلى البعض الآخر بالاستمرار والبقاء.
•• ملحوظة: كنت قد فرغت من كتابة هذا النص قبل ان أعرف أن جملة حذفت من خطاب الرئيس المؤقت عدلى منصور الذى أعلن فيه موعد الاستفتاء على الدستور. وهى الجملة التى وردت فى النص الأصلى الذى جرى توزيعه قبل بث كلمته وأشار إلى ان «الاختلاف مشروع ما دام تم فى إطار سلمى يراعى صالح الوطن»، وقد وصفتها صحيفة «المصرى اليوم» أمس بأنها «فقرة المصالحة» ونقلت عن مصادر الرئاسة قولها إنها لم تحذف لأسباب سياسية(!). وأيا كان رأينا فى تلك الأسباب غير السياسية فإن الحذف الذى تم اقنعنى بأن ما دعوت إليه لا محل له فى الوقت الراهن، لذلك أرجو أن يعتبر ما قلته اقتراحا مؤجلا لحين توافر الأسباب غير السياسية سابقة الذكر.
0 التعليقات:
Post a Comment