الامتناع عن دفع فواتير المياه والكهرباء.. قال الممتنعون: إنها إحدى خطوات العصيان المدني السلمي، فتبارى فقهاء وعلماء يؤكدون حرمتها، وخصصت وزارة الأوقاف المصرية جمعة الأمس من أجل التأكيد على حرمتها.. بل وجوب معاقبة فاعلها، حتى وصل الأمر ببعضهم أن جعل حد الحرابة جزاءً لمن يقوم بالامتناع!!
وأحب أن أناقش في السطور القادمة حكم هذه الآلية في ميزان الشرع:
أولا: لابد ابتداء من التكييف الفقهي لهذه الحادثة، لقد خرج العسكر والشرطة ومعهما طائفة من الشعب على الرئيس الشرعي المنتخب، خروجًا مسلحًا، فاختطفوه، وأسقطوه، وعينوا واحدًا من الخارجين معهم مكانه، فماذا يسمى هذا في الفقه الإسلامي؟ وفي أي باب يدرس؟ إنه يسمى البغي، وقد يختلف الفقهاء في إدخاله في أي صور البغي، التي عدّها الحنابلة أربعة أنواع، يقول ابن قدامة "... قوم من أهل الحق، يخرجون عن قبضة الإمام، ويرومون خلعه لتأويل سائغ، وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش، فهؤلاء البغاة، الذين نذكر في هذا الباب حكمهم "[1]
ثانيا: ما الواجب تجاه هذه الفئة الباغية، هل الترحيب والتبجيل أم الصد والدفع؟ قال الله تعالى: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات/9]" وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أعطى إمامًا صفقة يده، وثمرة فؤاده، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر[2]».
دلت الآية والحديث فيما دلت على حكم مجمع عليه بين الفقهاء، هو أن الإمام الحق، الذي انعقدت إمامته بطريق شرعي- والرئيس محمد مرسي كذلك لا ينازع في هذا أحد- إذا خرج عليه مجموعة مسلحة، وجب على هذا الإمام أن يقاتلهم، ووجب على المسلمين أن يقاتلوهم معه، يقول ابن قدامة: "....... فهؤلاء البغاة، الذين نذكر في هذا الباب حكمهم، وواجب على الناس معونة إمامهم، في قتال البغاة؛ لما ذكرنا في أول الباب؛ ولأنهم لو تركوا معونته، لقهره أهل البغي، وظهر الفساد في الأرض"[3] وجاء في الموسوعة الفقهية: "البغي حرام، والبغاة آثمون، ولكن ليس البغي خروجًا عن الإيمان؛ لأن الله سمى البغاة مؤمنين في قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . . .} إلى أن قال: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}، ويحل قتالهم، ويجب على الناس معونة الإمام في قتالهم. ومن قتل من أهل العدل أثناء قتالهم فهو شهيد. ويسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله"[4]
ثالثا: لكن المناصرين للدكتور مرسي المعزول، يعلنون أنهم لن يحملوا السيف في وجه مسلم مهما نطقت النصوص القرآنية والنبوية بشرعية ذلك. واختاروا عوضًا عن ذلك الطرق السلمية آنفة الذكر، ومنها الامتناع عن دفع فواتير الكهرباء بغية إسقاط النظام الباغي الذي شرع الله إسقاطه بالقتال.
أسئلة وشبهات
الشبهة الأولى:
تثار هنا شبهة أن العسكر قد تغلب وانقضى الأمر، وصارت الطاعة له واجبة، ومقاومته حتى بالطرق السلمية لإسقاطه محرمة، وهذا هو منطق حزب النور، الذي برر به سيره في ركاب العسكر.
والجواب أن هذا غير مسلّم حتى عند من يرون التسليم للمتغلب، فهذا ما ذكره ابن قدامة مما يتعلق بإمامة المتغلب" ولو خرج رجل على الإمام ، فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له، وأذعنوا بطاعته، وبايعوه، صار إمامًا يحرم قتاله، والخروج عليه؛ فإن عبد الملك بن مروان، خرج على ابن الزبير، فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بايعوه طوعًا وكرهًا، فصار إمامًا يحرم الخروج عليه؛ وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم"[5] والمقصود أن هذا التوصيف الذي ذكره ابن قدامة غير مسلَّم في المشهد المصري اليوم؛ فها هو الشارع منقسم، ومعنى هذا أننا لسنا في حالة التأييد الطوعي والكرهي الذي يتحدث عنه ابن قدامة، فها هي الحشود اليومية، تهدر في سماء مصر كل ليلة بأنها ضد هذا النظام، حتى الأطفال في المدارس. فعلى من يقولون بالتغلب أن ينتظروا في بيوتهم قابعين حتى يذعن أحد الفريقين للآخر فيسيروا في ركابه!!
الشبهة الثانية:
يمكن أن يثار هنا سؤال عاطفي: وما ذنب الشعب في هذا النضال؟ لماذا نحمله هذه التبعات، إن ميزانية الدولة إذا تعرضت لأزمة مادية نتيجة التوقف عن دفع مستحقاتها، سيؤدي إلى أن تتوقف بعض الخدمات، من تعليم وإنارة للطرق وغير ذلك؟
والجواب في النقاط التالية:
1- ترى هذه الحرب المشروعة ضد البغاة من حيث المبدأ- وأنا هنا أسأل هذا الحكم العام دون إسقاطه على مصر أو غيرها حتى لا يكون الإسقاط المكاني أو الزماني عائقًا عن الوصول إلى الحكم المجرد- هل سيستقر أثناء الحرب المشروعة على البغاة في الفقه الإسلامي النظام الاجتماعي والاقتصادي؟ لا شك أن ويلات الحرب وآثارها ستطال كل أفراد الشعب، وستظهر تداعيات الحرب وتجلياتها على كافة الأصعدة، فلا يتصور في حرب ضروس بين فئتين مسلحتين أن تكون الجامعات مفتوحة، والمصانع بها عمالها، والناس يغدون إلى أعمالهم ويروحون!!
2- ولا بأس أن يتضرر أفراد الشعب حتى تستقر دولتهم، ويسلم نظامهم ورئيسهم، بل أكثر من ذلك، سيطالب أفراد الشعب بأن يشاركوا رئيسهم في هذه الحرب، فهذا حق رئيسهم عليه ألا يظلموه أو يخذلوه أو يسلموه لظالم، وهو الذي كان يسهر على راحتهم، ويذود عن حقوقهم، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان (تذكر أنني هنا لا أتحدث عن المشهد المصري، بل أتحدث عن مبدأ الخروج المسلح على الرئيس المنتخب).
3- وهذا الذي أسس إليه التصور الإسلامي ليس انحيازًا إلى الرئيس الشرعي- أيًا كان اسمه ووصفه- بقدر ما هو انحياز إلى تأسيس رئيس عادل منحاز إلى الشعب، فإن الرئيس إذا عرف أنّ من واجبات شعبه عليه أن يحميه من الخذلان، وأن يقاتل معه من يبغي عليه… إذا عرف ذلك فإنه سيقبل مهمة الرئاسة مطمئنًا منحازًا إلى شعبه، الذي سيحميه وقت الأزمة، أما إذا لم يكن يطمئن إلى ذلك فإنه سيبحث عن حماية أخرى ستكون قطعًا ضد مصلحة الشعب مما يكرس لاستبداد الرؤساء، بل وازدرائها شعوبها؛ لأنه ليس معها من القوة شيء، وحسب الرئيس ما أوجد من قوى تحميه.
4- فإذا ثبت مشروعية حرب هؤلاء البغاة بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ونص الآية الكريمة ، وكان وراء الحرب ما وراءها من ويلات، وكان الرئيس المعزول ومن أراد مناصرته- مع أن مناصرته واجبة وليست خيارًا من الخيارات- يرفضون استخدام القوة في دحر هؤلاء البغاة، فلا أقل من أن تكون وسائل المقاومة الأخرى، الأقل ضررًا مشروعة، ومنها الامتناع عن دفع المستحقات المالية للدولة.
وما يذكر من أضرار، تنتج عن الامتناع عن دفع مستحقات الدولة المالية، سواء ما كان من هذه الأضرار، ما يقع على الأفراد جملة، أو على الدولة أو غير ذلك، فهي أضرار لا تبلغ معشار ما أوجبه الإسلام في حالة البغي من الحرب وويلاتها التي تطال ذلك كله، ومع ذلك أقرها الإسلام.
5- وما أجمل ما قاله هنا العلامة ابن حزم في مثل هذا المقام، قال: "فلو كان خوف ما ذكروا مانعًا من تغيير المنكر ومن الأمر بالمعروف لكان هذا بعينه مانعًا من جهاد أهل الحرب، وهذا مالا يقوله مسلم، وإن أدى ذلك إلى سبي النصارى نساء المؤمنين وأولادهم وأخذ أموالهم وسفك دمائهم وهتك حريمهم، ولا خلاف بين المسلمين في أن الجهاد واجب مع وجود هذا كله، ولا فرق بين الأمرين وكل ذلك جهاد ودعاء إلى القرآن والسنة"[6]
6- كما أننا رأينا من الفقهاء من ذهب إلى جواز الامتناع عن دفع الزكاة والخراج وغيرهما من مستحقات الدولة المالية للبغاة، أي الحكام الذين يصلون إلى الحكم بغيًا وعدوًا وغصبًا للحكم من الرئيس الشرعي- وهو ما ينطبق على واقع مسألتنا -[7] فقد جاء في نهاية المحتاج من كتب الشافعية في تعليل منع الزكاة عن الحكام البغاة: "لا يعتد بتفرقتهم للزكاة لئلا يتقووا به علينا "[8] ( يقصد بعلينا هنا جموع الشعب التي يجب عليها مقاومة هؤلاء البغاة) وكل ما يذكر هنا من أضرار تنجم عن الامتناع عن دفع فواتير الكهرباء والغاز، لا يعدل شيئًا إزاء الأضرار المترتبة على تلك المستحقات التي ذكرها الفقهاء قديمًا من زكاة وخراج؛ لأنها كانت تمثل معظم أو كل موارد الدولة المالية ساعتئذ، بخلاف ما ينادي إليه اليوم جماهير دعم الشرعية، من الامتناع عن دفع فواتير الغاز والكهرباء والماء، التي لا تمثل شيئًا في موارد الدولة المالية المعاصرة.
7- لسنا نقصد بهذا الامتناع، منعها للأبد، بل نقصد أنه منع مؤقت، يزول بسقوط النظام الباغي، ثم تبقى هذه الأموال ديونًا على أصحابها تجاه الدولة، يدفعونها حينما يعود الحكام الشرعيون إلى سدة الحكم مرة أخرى، وقد يحسن دفعها من الآن إلى أصحاب الحاجات والعوز، من المرضى والمحتاجين والفقراء، ممن يجب على الدولة كفايتهم، لكنها تتركهم، ويحسن بهم توثيق هذه المبالغ المدفوعة لهم حتى تكون المقاصة بينها وبين أصل الدين حينما تسقط الحكومة الباغية، كما يحسن أن يختاروا من المحتاجين غير ذوي القربى أسوة بمصارف الزكاة، ودرءًا لقالة السوء المتربصة بالشرفاء.
____________________________________________
[1] - وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية (8/ 131)
[2] - صحيح مسلم (3/ 1472)
[3] - وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية (8/ 131)
[4] - (8/ 131
[5] - المغني لابن قدامة (8/ 526)
[6] - الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 134)
[7] - انظر مذاهب الفقهاء في المسألة (الموسوعة الفقهية الكويتية (19/ 73
[8] - نهاية المحتاج ( 7/385)
0 التعليقات:
Post a Comment