في أغنية قديمة جديدة أذيعت بمناسبة السنة الثالثة التي تمر على ثورة 25 يناير للمبدع "ياسر المناوهلي"استمعت إليها؛ كان يدلي فيها ببيان مهم حول "صندوق النقد الدولي" والقرض الذي يتعلق به وماذا فعل بمصر وبشعبنا الفقير القدير؛ وكنت قد شرعت في كتابة بعض المقالات حول فكرة أساسية استعارها "ديفيد ايستون" أستاذ العلوم السياسية الأشهر والأقدم في كتاب تقليدي له حول "النظام السياسي"وهي فكرة "الصندوق الأسود" الذي يوجد في الطائرات لمقايسة شبيهة في النظام السياسي، وبدا لي استخدام هذه المفردة "الصندوق الأسود" كمدخل لتحليل السنوات الثلاث التي مرت علىثورة الخامس والعشرين من يناير وإمكانية استعادتها والذود عن حياضها، ومن التقاء هذين الصندوقين؛ صندوق النقد الدولي، والصندوق الأسود بدا لي أهمية فكرة الصندوق كمدخل أساسي يمكن متابعته في إطار منظومة الصناديق التي مع تنوعها والرؤية المتكاملة لها مما يمكن أن تعطي تحليلا وتفسيرا مهمين لعالم الأحداث الأساسية ومساراتها؛ بحيث تشكل رمزية غاية في الأهمية في هذا المقام.


ومن هنا بدا لى أفكر في صناديق أخرى حقيقية أو مجازية، فعلية أو رمزية يمكن أن تجتمع في عدسة لامة فتؤدي إلى بصر في الرؤية، وبصيرة في استشراف المستقبل، وقفز إلى الذهن "صندوق الانتخابات"، "وصندوق الشهداء" المتمثل في نعوشهم، "وصندوق سيارات الأمن المركزي" الذي يشحن المعتقلين إلى الأقسام أو السجون بل يتحول هذا الصندوق في بعض الأحيان إلى غرف تعذيب أو محلا للخنق والحرق والقتل؛ صناديق عدة قفزت إلى الذهن لتعبر عن مسائل غاية في الخطورة ،وبما تعبر عنه من رمزية في هذا المقام فتحرك مساحات للبحث غاية في الأهمية (النظام السياسي، النظام الانتخابي، منظومة الأمن، منظومة العدالة، منظومة الإعلام، منظومة القصاص للشهداء وغير ذلك من مساحات مهمة كان لها الأثر الكبير) وسيكون للتعرف على أهداف ومكتسبات ثورة الخامس والعشرين من يناير والبحث في أسباب مسارات الفشل والنجاح المتعلقة بها، وكأن كل صندوق يشكل غرفة ومساحة للتفكير من المهم تجليتها أو الخروج من أسرها.


ولذلك من الأهمية بمكان أن نطرح مدخلا مهما يمكن تسميته "المدخل الصندوقي"؛ كمدخل للتحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بما يشكل حقيقة إمكانية جامعة في إطار النظر إلى تكامل تلك الصناديق كغرف للاهتمام ومساحات للبحث، وفي هذا المقام فإنه يمكن الحديث عن الصندوق من بابين؛ الأول: يشير إلى الصندوق الحابس بالمعني العام؛ فأنت إذا وضعت شيئا في الصندوق صرت حابسه فيه، وصار ما في داخله معزولا عما في خارجه، ومن هنا كان التعبير عن الصندوق في هذا المقام ليس إلا إشارة رمزية حينما يتحكم الصندوق في الأشياء التي بداخله من حيث الإغلاق عليها والتي لا يمكن أن تنفتح إلا بمفتاح يصلح للتعامل مع الصندوق والتعرف على ما بداخله، أما الثاني: فإنما يشير إلى فكرة الصندوق الأسود والتي تشير إلى حالة من الأسرار داخل الصندوق المعتم المظلم الداكن فيحتفظ بالأسرار بحيث لا يراها أحد من الخارج بينما الأطراف الفاعلة في داخل هذا الصندوق تحكم ظلمته واسوداد رغبته في التعتيم لأن هذا الصندوق غالبا لا يشير إلى رغبة هؤلاء في إخفاء معلومات بحيث يكون ذلك الإخفاء من أهم مداخل التحكم من الفاعلين داخله سواء تعلق الأمر بشبكة حكم أو هيمنة أو سيطرة أو استبداد، أو بمؤسسات متنوعة من فساد وافساد.


ويمكننا في هذا المقام أن نضيف بعدا ثالثا في هذا المقام يتعلق بضرورة التفكير خارج الصناديق بحيث لا نقع في أسرها، أو يتحكم فينا سوادها؛ ذلك أن التعامل مع تلك الصناديق يجب أن يكون نمطيا بحيث يتحرك إلى مساحات الإبداع في التناول والتعامل وقدرات التحليل والتفسير؛ "التفكير خارج الصندوق" تعبير غاية في الأهمية يعبر عن حالة إبداعية يجب أن تكون بحيث تحرك البحث إلى مناطق مسكوت عنها، أو لا مفكر فيها، أو مهملة، أو مغفلة على أهميتها وإمكانية أن تشكل مفاتيح مهمة في بناء الوعي والوجهة والموقف والمسار.


ويقارب ذلك أمرا مهما يتمثل في رمزية الصناديق والتي سيكون لنا تناولا تفصيليا لكل صندوق على حدة من دون أن نهمل شبكة العلاقات بينها حتى لو أشارت إلى حالات متعينة مثل صندوق النقد الدولي، وصندوق الانتخابات، والصناديق التي تمثل نعوش الشهداء، وبين صناديق مجازية تعبر عن حال الأسر التي يمكن أن ندخل فيها بصدد تفكير نمطي أو تفكير مصطنع؛ من مثل صندوق الفرجة الذي يشكل مجتمع وثقافة الفرجة، وصندوق العلاقات المدنية العسكرية الملئ بالمناطق الداكنة والساكنة والأسرار والخطوط الحمر بما تعبر عن مساحات مسكوت عنها فترة طويلة من الزمن جعلت هذا الباب أشبه بالصندوق المغلق الذي يُمنع ويمتنع فتحه حتى على مالكيه أقصد هنا شعب مصر والوطن الكبير، بين هذه الصناديق المتعينة والصناديق المجازية تصاغ الأمور وتحدث التفاعلات وتحدد المسارات وتصدر القرارات في إطار سوق سوداء سياسية لا نعرف من يتحكم بها ومن يشكل أهم تحالفاتها وبناء مصالحها الدفينة، والدولة العميقة، والتحالفات الكامنة المكينة، تبدو هذه الرمزية من الميزات المهمة لفكرة الصناديق باعتبارها مدخلا للوصف والتحليل والتفسير والتقويم.


أما الميزة الأخرى فتقع في إمكانية تحويل هذه المساحات الرمزية إلى التأشير على مشاهد عينية أو وقائع محددة؛ فكرة المشاهد في هذا المقام تعبر عن مقدرة إضافية استخدمناها في إطار "فكرة اللقطات" حينما كانت ممارستنا البحثية التي تتعلق ببحث المواطنة الذي أشار إلى تأمين الدولة للدين في زحف الدولة غير المقدس؛ هذه اللقطات لو اجتمعت ستوضح تلك "التضمينات الصندوقية" ضمن هذا "التحليلي الصندوقي" المقترح لوصحت تلك التعبيرات.




ومن هنا فإنه من الضروري أن نتناول كل صندوق على حدة، وقدرات التناول مع هذا الصندوق في الفهم والبصر به للتعامل مع مشاهد مهمة سواء كانت تلك المشاهد والشواهد في ذاكرة التاريخ، أو كانت في الذاكرة القريبة بعد قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير؛ بين إبداع "ياسر المناوهلي" في الصندوق الذي أشار إليه، وبين استعارة "إيستون" لفكرة "الصندوق الأسود" في تحليل النظام السياسي تولد صناديق أخرى يمكن أن تجعلنا أكثر دقة وأشد عمقا في النظر البصير الذي يقوم على فض تلك الصناديق أو التفكير خارجها.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -