من بين ظواهر سلبية كثيرة أنتجتها الأوضاع المصرية منذ يوليو ٢٠١٣ ويتعين على الأصوات المدافعة عن الديمقراطية تفكيكها أو احتواؤها أو مواجهتها أو مقاومتها، تبرز ثلاثية تراجع قيمة المعرفة وتدنى أهمية المعلومة وتهميش الفكر العقلانى فى النقاشات السياسية والإعلامية على نحو مرضى يستدعى الالتفات والتناول بهدف التفكيك والاحتواء.
ففى معرض تراجع قيمة المعرفة، يروج بعض الكتاب والسياسيين والإعلاميين لرؤية مفادها أن الحكومات الغربية تناصب الحكم الراهن فى مصر العداء وتعمل على زعزعته إما رغبة فى عودة اليمين الدينى ــ الإخوانى إلى السلطة أو خوفا من ترشح محتمل لوزير الدفاع لرئاسة الجمهورية. ويتم هنا الزج بمقولتين إضافيتين تذهب أولاهما باتجاه اتهام الإخوان بالاستعداد لإعطاء الغرب كل ما يريد من أمن إسرائيل إلى تفتيت التراب الوطنى مرورا بنقل الإرهاب من باكستان ــ أفغانستان إلى سيناء، بينما ترتكز المقولة الثانية إلى نزوع المؤسسة العسكرية فى مصر إلى معاداة المصالح الغربية عامة والأمريكية خاصة وبحثها عن دور إقليمى مناوئ لسياسات الولايات المتحدة والدول الأوروبية فى الشرق الأوسط.
•••
والحقيقة هى أن هذه الرؤية تجافى المعرفة الموضوعية جملة وتفصيلا: فالحكومات الغربية لا تناصب ترتيبات ما بعد يوليو ٢٠١٣ العداء، وتواصل السعى إلى الاحتفاظ بعلاقات التعاون الاستراتيجى والعسكرى والسياسى والاقتصادى على الرغم من تواتر انتهاكات الحقوق والحريات، ولم يوقف الغرب مساعداته العسكرية أو الاقتصادية كما لم ينهج نهجا مشابها للاتحاد الأفريقى الذى رفض تدخل الجيش فى السياسة وابتعد عن التعامل مع ترتيبات الحكم الراهنة، ولم تكثر لا واشنطن ولا بروكسل ولا لندن أو برلين أو باريس من الحديث عن الديمقراطية وإجراءاتها واكتفت بالمطالبة غير محددة المعالم بأولوية دمج جميع القوى والأطراف المجتمعية فى السياسة واحترام سيادة القانون. أما المصالح الغربية عامة والأمريكية خاصة، معرفة بأمن إسرائيل والتعاون الاستراتيجى والعسكرى والاقتصادى وضمان إمدادات النفط الخليجية وبعيدا عن الادعاءات المتعلقة بتفتيت التراب الوطنى وبنقل الإرهاب، فقد ضمنها نظام الرئيس الأسبق مبارك كما ضمنتها رئاسة الدكتور محمد مرسى ويضمنها اليوم الحكم الراهن دون تغيير. وينطبق ذات الأمر على سياسة المؤسسة العسكرية تجاه السياسات الغربية فى الشرق الأوسط والتى دوما ما يتم التعامل معها بإيجابية من مشاركة فى حرب تحرير الكويت فى التسعينيات إلى تسهيلات عسكرية مستمرة للقوات الأمريكية وللقوات الغربية التى غزت العراق وظلت به لبضع سنوات ومن إسهام فى الأعمال الاستخباراتية المرتبطة بالحرب الأمريكية على الإرهاب إلى العمل على تثبيت الهدنة بين إسرائيل وقطاع غزة بينما يتواصل حصار القطاع. ولم يحدث أبدا أن نظرت الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية إلى مصر متجاهلة لكون المؤسسة العسكرية صديقة لها ومساعدة على تنفيذ سياساتها وحماية مصالحها، ولم يحدث أبدا أن ثبت على الولايات المتحدة سعيها إلى تفتيت التراب الوطنى أو تورطها فى خطط لتقسيم مصر، ولا حين تبنت إدارة بوش واللوبى الإسرائيلى فى واشنطن فى العقد الماضى السياسة الفاشلة المسماة «الشرق الأوسط الجديد» ــ والتى كتبت مع زملاء لى بمؤسسة كارنيجى فى ٢٠٠٨ نقدا حادا لها ولتداعياتها التى ضمنت فقط مصالح إسرائيل وعصفت بالحقوق والمصالح العربية وفرضت صراعات إقليمية فى ورقة بحثية حملت عنوان «الشرق الأوسط الجديد»، واستدعاها مؤخرا بتزييف كامل الأركان بعض مدعى المعرفة والخبرة فى حوارات تليفزيونية على شاشات مصرية باتت تتفاخر باستضافة ممثلى معاهد ومراكز اللوبى الإسرائيلى فى واشنطن لأنهم يدافعون عن ٣ يوليو ٢٠١٣ ويروجون لاستمرار حصار قطاع غزة.
•••
وفى معرض تدنى أهمية المعلومة، يروج بعض الكتاب والسياسيين والإعلاميين المؤيدين لترتيبات الحكم الراهنة فى مصر لقراءة مؤداها أن جميع المشاركين فى مسيرات وتظاهرات المعارضة فى ٢٥ يناير ٢٠١٤ كانوا إما من المنتمين لجماعة الإخوان أو من المتعاطفين معها أو من الشباب الأخرق الجاهز للصمت عن الإرهاب وممارسة العنف وتهديد السلم الأهلى والذى لا يملك إلا مقولات ثورية فاقدة للمصداقية ومنتهية الصلاحية. ورتبت هذه القراءة خروج بعض الصحف ووسائل الإعلام على الرأى العام بمبررات لسقوط ضحايا ومصابين بين صفوف الشباب المشاركين فى ٢٥ يناير ٢٠١٤ واعتقال الكثير منهم، ووظفت فى هذا السياق عبارات «كإخوان المولوتوف وحلفائهم» و«اعتقال دعاة الإرهاب والعنف» و«الأمن يطارد عناصر الجماعة الإرهابية و٦ ابريل والاشتراكيين الثوريين» وغيرها.
والحقيقة هى أن هذه القراءة تتناقض مع المعلومات المتداولة عن ٢٥ يناير والمشاركين به. فإذا كانت جماعة الإخوان عبر تحالفها المسمى «دعم الشرعية» قد دعت إلى مسيرات وتظاهرات، فإن جبهة طريق الثورة «ثوار»، التى تضم مجموعات وحركات شبابية كانت فى طليعة ثورة ٢٠١١ وفى طليعة معارضى المجلس العسكرى ورئاسة الدكتور مرسى وواصلت معارضة الخروج عن الديمقراطية وانتهاكات الحقوق والحريات بعد يوليو ٢٠١٣، دعت إلى مسيرة سلمية مستقلة وواجهت محاولات الإخوان التداخل مع مسيرتها (التى انطلقت من ميدان مصطفى محمود) بتغيير مكان المسيرة (إلى نقابة الصحفيين) ثم إلغائها. إلا أن المشاركين مع جبهة ثوار وعلى الرغم من التزامهم السلمية الكاملة، ووفقا لعضو الجبهة الصديق مصطفى شوقى وللكثير من شهود العيان، واجهوا قمع وعنف قوات الأمن وألقى القبض على عدد كبير منهم فى أماكن مختلفة ومازالوا قيد الحبس ــ من بينهم الصديق خالد السيد عضو المكتب التنفيذى لائتلاف شباب الثورة سابقا والعضو السابق باللجنة المركزية لحزب التحالف الشعبى الاشتراكى. ويتناقض ادعاء أن الشباب المشارك فى المسيرات والتظاهرات يؤيد العنف أو لا يملك طرحا سياسيا واضحا مع المعلومات المتداولة عن جبهة ثوار ومجموعات شبابية أخرى تنبذ العنف بوضوح وتعارض الفاشية الدينية وسياسات اليمين الدينى كما تعارض هيمنة المكون العسكرى ــ الأمنى على السياسة وتقف رافضة لانتهاكات حقوق الإنسان والحريات.
•••
وفى معرض تهميش الفكر العقلانى، يروج بعض الكتاب السياسيين والإعلاميين لتحليل يقترح أن تدخل المؤسسة العسكرية فى السياسة لا يتعارض مع الديمقراطية أو أن إبعاد الجيش عن السياسة ممكن فى مصر مع ترشح عسكريين لرئاسة الجمهورية ومع الضعف المتواصل للسلطات المدنية، خاصة السلطتين التشريعية والتنفيذية ذواتى الشرعية الانتخابية.
والحقيقة هى أن هذا التحليل ليس له أن يدعى لا العلمية ولا الموضوعية ولا الإفادة من الخبرات التاريخية، فكل هذه المضامين تؤكد على أن تدخل الجيوش فى السياسة يدفع بعيدا عن الديمقراطية وعلى أن ترشح العسكريين فى دول ذات سلطات مدنية ضعيفة يعمق من هيمنة المؤسسات العسكرية أو المكون العسكرى ــ الأمنى على السياسة. وبدون كل هذه المضامين لا رشادة فى التحليل المقترح، ولا عقلانية فى الفكر الكامن وراءه.
0 التعليقات:
Post a Comment