أكون مفرطا في تفاؤل هو إلى الغفلة أقرب، إن قلت إنني ألمح غيوما في الأفق أو أستشعر نذر عاصفة عاتية أوشكت رياحها على الهبوب. فأنا وأنتم ومن نعرف نقف جميعا بالفعل في عين العاصفة، دون ملجأ نأوي إليه، اللهم إلا البراءة من الظلم والظالمين ودفعهم والأخذ على أيديهم قدر المستطاع حتى يأتي أمر الله ونحن كذلك رجاء أن تصيبنا رحمته.
السطور التالية توقعات لا توصيات .. تحذر ولا تحرض .. تفسر ولا تبرر. وهذا توضيح لابد منه حتى لا يحملها أحدهم على غير المحمل الذي أردته منها.
كان لي مؤخرا لقاء مع أحد أعضاء الإخوان المسلمين من أبناء بلدتي ممن اضطروا إلى الرحيل عن مصر بعد أن ضاقت عليهم بما رحبت. قص علي صديقي بكلمات متعثرة تفوح بالأسى مسلك جيرانه وأقربائه في التعامل معه بعد أن أدبرت الدنيا عنه وعن إخوانه. وكيف تحول امتنان كثيرين منهم كان يتولى بنفسه ـ وأنا على ذلك من الشاهدين ـ توزيع الصدقات عليهم إلى جحود وصلف وشماتة ونكران للجميل بل ووشاية وتحريض وتعيير لأطفاله وكتابة لعبارات السباب على جدران بيته! وكيف أن الحال ضاقت به حتى إنه رد على أحد المحسنين الذين اعتادوا أن يقصدوه لتوزيع الصدقات قائلا: تخير أحدا غيري لهذه المهمة فوالله لن أوزع فيهم مليما بعد اليوم!!
بالتزامن مع مسلك المواطنين الشرفاء الذي لا يجد له صاحبنا تفسيرا يرتضيه العقل، تداهم مسامع الجميع هذه الأيام قصص الأهوال والموت البطيء والسريع وأخبار الاغتصاب والانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون والمعتقلات بينما تشن قوات (نعم .. قوات وليست قنوات) الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة حملة إبادة معنوية لا تقل ضراوة، تساندها فتاوى فاجرة تكفرهم وتوجب تطليق زوجاتهم في ظل قعود مشين من أهل العلم عن قول الحق ونصرة المظلوم وعلو هائل للقتلة والظلمة الذين ما عادوا بشرا يأكلون ويتغوطون كسائر الناس وإنما رفعهم السفهاء إلى مراتب الآلهة والرسل؛ ولا يتورعون عن مخاطبتهم بكلمات الكفر البواح مثل صحفي الأخبار الذي كتب لكبيرهم قائلا: ما شئت لا ما شاءت الأقدار .. واحكم فأنت الواحد القهار!! أم تراكم نسيتم ممثل الأزهر في لجنة الخمسين الذي اكتشف مؤخرا أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس آخر رسل الله إلى العالمين؟؟!!
السؤال الذي أراوغه وأتقيه ثم هو لا يفارقني ليلا ولا نهارا: ماذا يصنع شباب الإسلاميين صغار السن قليلو العلم ممن لم يجدوا فرصة للنجاة بأنفسهم والخروج من القرية الظالم أهلها كما فعل ابن بلدتي؟ هل يستسلمون للموت المجاني أو الاعتقال المهين أم ينفعلون ويتفاعلون مع سنن الكون وقوانين الحياة التي تقتضي الاستجابة للفعل برد مساو في المقدار ومضاد في الاتجاه؟
تحضرني في هذا الصدد قصتان لا تخلوان من العبرة. إحداهما من الماضي البعيد نسبيا أيام محنة المسلمين المروعة في أرض الأندلس قبيل سقوطها وقد أحكم ملك قشتالة حصاره على غرناطة آخر الحواضر الإسلامية. كان من رجال المسلمين في ذلك الزمن فارس مغوار يدعى موسى بن أبي غسان، راعه أن رأى من قومه ميلا إلى التسليم والنزول على مواثيق الأمان التي وعدهم بها القشتاليون. فما كان منه إلا أن وقف خطيبا في أهل غرناطة يحرضهم على القتال قائلا " لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة مَلِكِهم؛ إن الموت أقل ما نخشى. فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش والتعصب الوحشي، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق، هذا ما سوف نعاني من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التي تخشى الآن الموت الشريف، أما أنا فوالله لن أراه". وتركهم وعاد إلى بيته ولبس سلاحه وانظلق إلى سرية من القشتاليين فقاتلهم وقاتلوه حتى لقي ربه شهيدا، ثم كان من أمر ملك قشتالة من الغدر ما حذر منه موسى بن أبي غسان وبقية القصة معروفة، والمغزى أنه خلال صراعات الوجود فإن الاستسلام يغدو أسوأ خيار. (راجع الجزء السابع من موسوعة دولة الإسلام في الأندلس للرائع محمد عبد الله عنان).
وأما القصة الأخرى فقد حدثت في الماضي القريب وكثير من الأحياء اليوم شاهدون على فصولها، عندما تعرض الإخوان لمحنتهم الثانية في سجون الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وهي محنة شديدة الشبه بما يتعرضون له الآن وإن كنت أعتبرها أقل وطأة! في ذلك الوقت، وكرد فعل للظلم الفادح الذي وقع بالإخوان، بدأت تظهر بوادر فكر متطرف بين شباب المعتقلين الذين كانوا يقاسون صنوفا من التعذيب ويسمعون بانتظام عبارات الكفر داخل محبسهم من سجانيهم بينما المنافقون خارج الأسوار يرفعون الظلمة إلى مراتب فوق مراتب البشر (يالله!! المصريين ما بيزهقوش؟!!) تزعم هؤلاء الشباب الشيخ علي إسماعيل شقيق عبد الفتاح إسماعيل الذي أعدم مع سيد قطب وآخرين عام 65. وكان يرى وأصحابه أن رئيس الدولة وأركان نظامه كفار وأن من لم يكفرهم فهو كافر مثلهم وأن المجتمع بأفراده كفار لأنهم يؤيدون هؤلاء الحكام المرتدين وبالتالي لا تنفعهم صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج. ثم ما لبث أن عاد الشيخ علي إسماعيل عن تلك الأفكار وأعلن ضلالها وبراءته منها. لكن هيهات! كان ذلك النهج قد تغلغل في قلوب عدد لا بأس به من أصحابه، فكان منطقيا أن يبرز شخص آخر على مسرح الأحداث ليقود أولئك الشباب ويتزعم ما عُرف لاحقا بجماعة التكفير والهجرة التي وإن كانت الأشد تطرفا من الناحية الفكرية إلا أن العنف الذي ارتكبه أفرادها لا يقارن بحال مع ما أقدمت عليه تنظيمات أخرى أشد تماسكا وأوسع انتشارا وذات أيديولوجيات أكثر قبولا بين عامة المسلمين كجماعة الجهاد والجماعة الإسلامية.
وفي دروس التاريخ الأقرب أيضا عظة وعبرة! فقبل نيف وعشرين عاما وفي أعقاب انقلاب المؤسسة العسكرية الجزائرية على نتائج انتخابات جاءت بالإسلاميين إلى الواجهة دارت رحى حرب أهلية لم يتورع العسكر خلالها ـ بشهادة ضباط وأفراد من الجيش الجزائري ـ عن ارتكاب مذابح مرعبة بحق الأهالي البسطاء وأبادوا قرى بأكملها لإلصاق التهمة بالجماعات الإسلامية المسلحة ورفع الغطاء الشعبي عنها.
أما اليوم، فأكاد أرى دورة التاريخ تأخذ مجراها، ويكاد الخيط الرفيع الفاصل بين "وأعرض عن المشركين" وبين "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" يتلاشى، وأكاد أرى ساقية العنف المجنونة تغرق أرض مصر ـ حفظها الله ـ بطوفان من الدماء، لا يسلم منه الرافضون ولا المفوضون ولا حتى من أغلقوا عليهم أبوابهم، ولا يجف حتى يرى سوءَ المنقلب من غرهم حلم الله بهم.
عذرا على الإطالة.
This comment has been removed by the author.
ReplyDelete