لا تقل لي إن من يذهب لروسيا ليتفاوض أو ليتفاهم أو ليطلب، لا تقل لي أنه لا يستحضر كونها وريث الاتحاد السوفيتي السابق، فلم إذن لا يذهب لدول أرغد منها اقتصادا أو أقوى عتادا مثل الصين أو ألمانيا أو اليابان أو حتى البرازيل؟
ألفت النظر إلى أن من يطلب من روسيا طلبا واحدا وواحدا فقط فلن ينال منها إلا المماطلة، كما كان يفعل الاتحاد السوفييتي السابق، كذا تجاهلوا مطالب مرسي بالتعاون لأنه لم يبد خضوعا واضحا.
وروسيا لا تزال هي المتحكمة في سياسات كافة الدول التي كانت تخضع لها إبان الاتحاد السوفييتي ولا تستطيع تلك الدول الخروج من أسارها في أغلب شؤونها، وهذا يؤيد ما نقول من أنها تتعامل كوريث لا يريد أن يتخلى عن ميراث افتقده ويملك بعض أدوات التحكم فيه في الوقت الذي يسعى لاستعادته كاملا.
حالها هنا تشبه حال الوزارات وقتما حكم الرئيس مرسي، تخضع له ظاهرا وتتلقى أوامرها من جهات أخرى باعتباره رئيسا مستخفا به، انتظارا للحظة الانقضاض.
لقد زرع الروس، إبان الاتحاد السوفيتي، طوائف مختلفة من "الجنس الروسي" في كافة مفاصل دول الاتحاد، فتحكموا فيها كالمحتلين لها، وولاؤهم إلى الآن لروسيا وليس لدول الإقامة حتى لو كانوا يحملون جنسياتها؛ كما فتت الروس أيضا الأجناس والجنسيات فنقلوهم من بلادهم الأصلية قسرا إلى بلاد أخرى لكن لم يمكنوهم منها فضمنوا بذلك تحكما وولاء لا يزال مستمرا ليومنا هذا ولا يزال يستفز من يدرك ذلك من الشعوب هناك.
الأحداث في أوكرانيا -أيضا- دليل على ذلك ، فالناس سئموا من التبعية لروسيا، وبدلا من البحث عن استقلال وطني حقيقي إذا بهم يرحبون بالتبعية الغربية كبديل عن ذلك، والغرب وأمريكا يشجعون ذلك استمرارا لسياسة المنافسة المستمرة بين الأقطاب فترى تعاطفهم معهم ولا تتعجب من تجاهلهم لثورات شعوبنا.
بالنسبة لمصر في المراحل الماضية تجد روسيا أزعجت عبد الناصر والسادات إزعاجا متتاليا ومستمرا من أجل ترويضهما على السمع والطاعة من دون مناقشة.
طلب منهم ناصر أسلحة مرات بشكل مباشر ومرات أخرى عبر وسطاء فكانوا يماطلون حتى مات ولم يحظ بأسلحة متطورة كان يطالبهم بها وكانوا يعدونه بإرسالها. مجرد أسلحة يطلب شراءها بالمال ومع ذلك تجاهلوه ولم يبيعوها له! فالبيع لا يغريهم كثيرا لأنهم يحملون مشروعا.
لقد كانوا يسعون إلى حزمة متكاملة من التعاون، يكون منه جزء فكري وثقافي، وجزء اقتصادي، ويتضمن تبعية سياسية بصورة أو أخرى نظير أية مساعدات عسكرية أو علمية أو سياسية أو غيرها.
ينظرون دائما إلى الأمر على أنه حزمة، إذن لابد من الأخذ بها كلها.
وهو ما دفع بناصر إلى الرضوخ لبعض المطالب لتحريك الأمور، فأفرج عن شيوعيين ومكن كثيرا منهم من مفاصل مهمة، وتلك مصيبة من مصائبه التي أورثناها، فلا نزال نعاني في مصر إلى الآن من تسلط الذين زرعوا منهم في مجالات الثقافة والإعلام، وفي آخر الأمر استفزوه وتجاهلوه ولم يعطوه أهمية ولا اعتبارا، حتى أعلن من موسكو استعداده للتعاون مع أمريكا وهو ما أثارهم ضده أكثر.
وكذا حاول السادات في بداية أمره، حتى وصل لقناعة بألا فائدة أبدا منهم إلا الدوران في فلكهم تماما، لكن مع الأسف بدلا من البحث عن استقلال حقيقي إذا به أيضا يجد البديل في الدوران في الفلك الأمريكي، الذي يحصل على نفس ما يريده الروس لكن بشكل "شيك".
شيء يشبه الفرق بين السارق بالإكراه والسارق بالاحتيال، كلاهما يقوم بالسرقة لكن ربما لا يدرك المحتال عليه أنه استغفل.
لذا فلن تفلح أي محاولة للحصول على شيئ تدس روسيا أنفها فيه إلا رغما عنها وليس بالتفاهم معها..رغم أنها تخلت عن المشروع الفكري، لكنها ترغب في استعادة الدور السياسي.
ولا بد أن يعقل ذلك من يتفاوضون معهم فيما يسمى "جنيف 2"، لن يحصل شعب على حريته ولن يستقل قراره ما دام الروس يحركون الأمور من وراء الستار.
وكأن قدر الشعوب أن تدور في فلك أولئك الكبار دون أن تبحث عن مخارج وعلاجات لجراحاتها..بدلا من إغراء بريق تقليد المنتصرين أو الدوران في فلك الأقوياء.
روسيا تتعامل بنفسية المكلوم الجريح الذي يرغب في استعادة أمجاده التي افتقدها أو سلبت منه.
ولن تتخلى عن ذلك الحلم بسهولة، خاصة في ظل الأزمات المختلفة التي يمر بها الغرب وتمر بها أمريكا فهي فرصة روسيا " وفرصة إيران في ذلك أكبر لأنها لا تزال تحمل مشروعا".
فبعد مرحلة كمون بعد الانهيار في التسعينات بدأت روسيا تلتقط أنفاسها ويراودها الحلم من جديد: ما المانع من استعادة الدور التوسعي؟
ومرة أخرى يقفز مثل الرئيس مرسي، حين اختل توازن الدولة العميقة في عهده، وقتما أطاح ببعض رؤوس المجلس العسكري، ثم لما هدأ في مواجهتهم سرعان ما نظموا صفوفهم وانقضوا عليه ككلب ألقمته حجرا، لكنك تركته يبتعد قليلا فانشغلت بشأنك ولم تشعر إلا وهو ينقض عليك من الخلف.
نفسية مشابهة ساهمت في اندلاع الحرب العالمية الثانية – وربما أفضت إليها – بعد أن رتقت جراح الأولى على أورام لم تعالج - في الحالة الألمانية - ما مثل دافع الانتقام الذي كان سببا مهما في الحرب الثانية.
ولكن الأمر في ألمانيا استقر الآن بعدما تم استبدال الفكر النازي بفكر آخر يصلح للتفاهم ولقبول الآخر، وهو ما أفضى إلى تغير حقيقي في موقفها المكتفي الآن بالعكوف على إصلاح داخلي دون تدخل يذكر في الشؤون الخارجية العالمية.
نفسية الوريث المتطلع لاستعادة الأمجاد إذن هي التي تحرك - من وراء ستار- السياسة الروسية الآن والتي ما فتئت تبحث عن مواطن التأثير ومواطئ الوجود في مناطق الأحداث الساخنة كالمنطقة العربية ومنافذ إنتاج الطاقة حيث كانت.
فهي تتعامل بحذر المتشوف الراغب في استعادة المجد. وتلك الشخصية المتشوفة والمؤثرة سياسيا هي التي دفعت هرقل قديما إلى السؤال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – حين أرسل له يدعوه إلى الإسلام – هل كان لآبائه من ملك فهو يطلب استعادة ملكهم ؟ وهل سبقه إلى قوله من آبائه أحد؟ لأن نفسية الاستعادة هي دافع كبير يحرك الأحداث.
والشيء بالشيء يذكر فإن استعادة التفوق الفارسي مقابل العروبة حلم آخر يراود السياسة الإيرانية.
وتلك الأحلام تضحي مشروعة لو لم يصحبها ذلك الاعتداء على حقوق الناس والتهام أنصبتهم في الحياة.
تعد الطموحات أحلاما مشروعة ومقدرة حين يطبقها الساسة في إطار العدل والإنصاف لا في إطار استذلال الناس وغمط حقوقهم ولا في طور الأشر والبطر الذي يصاحب أي علو في الأرض أو تميزا في أداء.
ولا يكاد عصر ينجو من مشكلات ذلك التميز، إلا العصور الأولى للمسلمين حين كان الفتح الإسلامي دافعا للتواضع وشكر نعمة الله تعالى لا إلى الأشر والبطر على عباد الله تعالى.
إن روسيا الآن تسعى لدور يتجاوز صفقة هنا أو هناك.
من يغرينا بروسيا من الغرب أو أمريكا – في مصر وسوريا وغيرها من دول الربيع - هو يقسم تركة بينه وبينها، شيء يشبه سايكس بيكو أخرى، فهل ثمت علاقة بين ذلك وبين التقارب الأمريكي الإيراني؟ مجرد تأمل.
فلحق أنه لم يندفع إلى روسيا اللاهثون بدافع الاستقلال، بينما هم في الأساس ضالعون في التعاون مع أمريكا ورجالها في المنطقة.
ولا أدل على ذلك من رعايتهم للانقلاب على الثورات، ولا ندري لأي مدى يتلاعبون ببلادنا؟
فهل يعقل ذلك الطامحون الهلعون الذين يرتمون مرة ثانية في أحضان روسيا رغبة في " تنويع السادة" وسندا لرئاسة نكدة يريدون انتزاعها تطبيقا لأحلام شيطانية لسيوف حمراء تقطر دما؟
المصدر: الجزيرة مباشر مصر
0 التعليقات:
Post a Comment