(1)

وجه أربعينى تحيط به تحجيبة داكنة اللون تضفى عليه وقارا وجلالا، تجلس فى سيارتها و تمسك بمصحفها الصغير وتتابع الورد وعيناها على ذلك الجندى الذى يقف على تلك البوابة الحديدة الضخمة، الشمس قد أستطار شررها والساعة تلو الساعة تمضى، لا تعرف كم سيطول انتظارها هذه المرة، ولا تعرف هل ستراه بعد كل هذا الانتظار أم لن يسمح لها بالزيارة!


تحاول قتل لحظات الانتظار والشوق، تخرج هاتفها وتكتب على صفحتها كلمات لذلك القابع خلف الأسوار لن تصل إليه ولا تعرف متى ستصافح عينيه كلماتها يوما ما : " ابنى الحبيب المعتقل وراء القضبان أنس .. أفتقدك فى كل شيء حولى كما أفتقد أختك الشهيدة بإذن الله أسماء كما أفتقد أباكما .. أنتظركم أن تحضروا فلا تأتون .. أدخل الى غرفكم فلا أجدكم .. أقلب فى أوراقكم أشم فى ملابسكم .. جدران بيتنا صارت كالبيت المهجور .. أصبح يناديكم متى ستأتون أنتظرك أنت يا أنس وأباك إن شاء الله لن يدوم الانقلاب سينكسر قريباً"


يمر شريط ذكرياتها مع بطلها الصغير أمام عينيها، شقتهم الصغيرة فى شبرا حيث عاش طفولته وصباه، حلقات القرآن وساعات الأذكار وجلسات الخواطر، الرحلات والمعسكرات والنشاطات .. "الظلم لو طال ليله" عندما تصدح الأنشودة فى أرجاء المنزل أو "سوف تأتيك المعالى إن أتيت" عندما يعلقها على باب غرفته ..


الانتقال إلى مدينة نصر وفترة فتوته ونشاطه، غيابه وأخوه بالساعات الطوال خارج البيت من مسجد إلى مسجد ومن محفل إلى محفل .. قلقها فى أيام المظاهرات .. استبشارها فى أوقات الانتخابات .. دعاؤها فى أيام الامتحانات .. ثم يأتى زمن الثورات هنا فى مصر أو هناك فى سوريا يعمل من أجل كل تلك القضايا يدافع عن الحرية ويثبت فى كل ميدان .. حتى فى تلك اللحظات التى كان إلى جوارها فى رابعة تحيط بهم أصوات الرصاص من كل مكان .. حتى فى تلك اللحظات التى توقف فيها نبض كف أخته وهو يتشبث بكفه لم يضعف ولم ينكسر وأكمل من بعدها الطريق !


تتذكر السيدة سناء الآن كيف حاله فى تلك الزنزانة الموحشة بعيدا عنها وعن كل البشر، يعاقبه سجانه على ما علمته إياه من الجهاد والثبات، على ما ربته عليه من العزة والإباء .. تتذكره وتتذكر الآلاف مثله الآن فى كل سجون الوطن .. والآلاف مثلها من أمهات يرفلن فى خمرهن ويقفن بالساعات بجوار سور سجن أو على رصيف قسم ينتظرن أن تقر أعينهن بفلذات أكبادهن لدقائق معدودات كل أيام !

(2)


من خلف نظارتها السميكة بدت علامات القلق فى عينى تلك السيدة الخمسينية التى قد كلل البياض رأسها وأحنى الزمن ظهرها فظهرت أكبر من عمرها، فمنذ أن وصلتها تلك المكالمة التى علمت منها أن ابنها الآن غير موجود فى زنزانته بسجن طرة، وأنه تم نقله إلى جهة غير معلومة، وهى تحاول أن تنزع من رأسها عشرات من صور التعذيب التى ظلت لسنوات وسنوات توثقها مع زوجها وابنها وبنتها ولا تتخيل أن يوما ما قد يقع ذلك فى أقرب الناس إليها !


تحاول أن تتصل بأحد البرامج التلفزيونية الشهيرة لتحدث ضجة ما تجعل البشوات من خلف مكاتبهم يحجمون إن كان بعضهم قد أضمر شرا لابنها الشاب، تحاول أن تكون ثابتة كما عهدت نفسها كل هاتيك السنين، منذ أول مظاهرة رن صوتها فى أذنها عندما كانت فى مدرستها الثانوية أيام السادات .. إلى نضال الجامعة منذ أن كانت طالبة وإلى أن صارت أستاذة رياضيات فى كلية العلوم بجامعة القاهرة .. منذ تلك المجموعات الطلابية الصغيرة فى الجامعة، إلى حركة (9 مارس) التى أقضت النظام القمعى والأمنى فى سنواته الأخيرة


يمر شريط ذكرايتها مع بطلها الصغير أمام عينيها، تتذكر مرافقة علاء هو وأخته لها فى كل الفعاليات والاحتجاجات .. تتذكر الآن وقفات سلالام نقابة الصحفيين .. تتذكر مؤتمرات وندوات الدور الرابع .. "كفاية" كل يوم أربعاء .. 25 يناير والميدان وأغنية "حاحا" التى كان يصفق عليها هو ورفاقه ليلة "التنحى" .. الكتب والنقاشات والنظريات الفلسفية والتقارير الحقوقية .. فنجان من القهوة ودخان سيجارة ترى فى خطوطه المتلاشية أمام عينيه كل شىء ينهار عندما تتذكر كيف كتب مقالته فى السجن عن أنه هنا لأول مرة ولا يشعر أنه يدفع ثمن شىء ما، وأن كل شىء قد أصبح عبثا، وسجنه لا ثمن له ..


لكن الدكتورة ليلى تعلم فى قرارة نفسها أن ابنها يدفع تلك الضريبة التى عليه أن يدفعها فى كل عصر وكل أوان، ضريبة تربيتها التى ربتها له .. ضريبة تعليمها له أساس الحقوق والواجبات، ومبادىء الحرية والعدل .. ومواجهة الاستبداد أيا كان !


أخيرا محرك البحث يعمل، بعض الجرائد قد كتبت، وردود مقتضبة من وزارة الداخلية تنفى نقله هنا أو هناك، تراقب حركة النشر على الإنترنت، وينتاب قلبها غصة لأنها تعلم أن آلاف الأمهات غيرها يختفى أبناؤهن بالشهور لا بالساعات ولا تعلم إحداهن عنه شيئا ..


(3)


عقدها الماسى وقِرطاها اللامعين وشعرها المصفف بأناقة وعشرات من عمليات التجميل الناجحة تخفى تماما وجهها الستينى .. تجلس فى الصفوف الأولى من القاعة والجميع يرمقها بكل انبهار وإعجاب، تقبع تلك الدعوة التى وصلتها لتكريمها فى حقيبتها الأنيقة الموضوعة بجوارها، لا تفكر كثيرا فى نوع التكريم عندما تنطق المنصة باسمها بعد قليل، ولا فى تلك الأضواء التى ستتألق تحتها عندما تتوجه لها كل العيون والعدسات فى حبور واحتفاء !


قد اعتادت على هذه الإنجازات منذ نعومة أظافرها منذ أن كانت فى الثانية عشر من عمرها، عندما أدت دورها الأول فى فيلم "الرسالة" نعم ذلك الفيلم الذى اهتدى بسببه الآلاف فى الغرب كما نسمع، كانت تحمد الله أن وفقها وأدت دور الراقصة فى هذا الفيلم كأول ظهور لها أمام الكاميرا !


كانت البداية فقط، تابعت نشر رسالتها بعد ذلك أمام العشرات والمئات من العدسات، رقص وعرى وأحضان وقبلات .. سنوات وراء سنوات من الإنجازات المتوالية، بين الأفلام والمسلسلات، بين الحانات وقاعات الأفراح والفنادق، تكد وتتعب، تمتع الناس وتثيرهم بمفاتنها ومحاسنها، وأبدا كل هذا لم ينسها دورها فى حياتها الخاصة، فقد كانت صاحبة عصمة محترمة لستة رجال قررت أن تكون علاقتهم بها شرعية، والبقية لم يكن من المهم الإعلان عن ذلك !


تتذكر الآن بناتها من عزة الكبرى إلى هنادى الصغرى، كيف أحاطتهن بكل أنواع الرعاية، مصايف ورحلات وحفلات وسفر وهدايا ونعيم تحسدهن عليه أى فتاة فى مصر، وفخر أيما فخر بأن والدتهن راقصة مصر الأولى لم يهتز لها عرض لعقود متوالية !


تسمع مدام فيفى اسمها، وتصعد على المسرح الصغير لتأخذ شهادة تكريم الأم "المثالية" وتدمع عيناها عندما تتذكر كم أما اقتدت بها ورقصت أمام الناس فى فرح ابنها، وكم سيدة جادت على الناس بهزات وسطها فى أعراسنا الديمقراطية المجيدة أمام اللجان المقدسة، إنها ترى الآن أنها لم تنجح فقط فى رسالتها السامية للناس، ولكنها أيضا أنجبت لـ "مصر" ثلاث فيتات "زى الورد" يستكلمن المسيرة !

....


أى دولة إذن تلك التى نعيش فيها ونحن نرى هذه الثلاث مشاهد متزامنة، أى دولة تحارب السيدة سناء عبد الجواد والآلاف من الفضليات أمثالها، وتتجاهل الدكتورة ليلى سويف والعشرات من العظيمات أمثالها، ثم تحتفى بفيفى عبده والمئات من الساقطات أمثالها !

لم أتحدث هنا عن واقعة "التكريم" إلا من باب الرمزية، فهو من نادى اجتماعى ما ولا يقاس به حجم تقبل المجتمع له أو رفضه، ولكنى أتحدث عن أداة الدولة الأولى، عن أبواقها وشاشاتها التى عرضت لفيفى عبده مئات الوصلات من الرقص والإثارة بينما لم يستضف أحد الدكتورة ليلى إلا بضع مرات، وبالتأكيد لن تظهر صورة السيدة سناء على أى شاشة أو يسمع صوتها فى أى بوق .. هذا إذن هو المجتمع الذى يريدوننا أن نعيش فيه، وتلك الساقطة هى رمزه، فأى فُجر هذا .. فأى فتيات سينشأن فى مجتمع تُقلد وتكرم فيه الساقطات وتُصبح عملية النسخ منهن وتقليدهن فى كل موطن تجرى على قدم وساق وفخر وقبول من الناس !


بين أصحابنا عندما يفاجأ أحدهم بموقف يُصدم فيه نضرب له مثلا ونقول : ده زى ما يكون اكتشف إن أمه بتشتغل رقاصة .. لكن يبدو أنهم يريدون أن يقولوا لنا من خلال كل هذا : وماله لما أمك تشتغل رقاصة .. ربما كلامهم معقول الآن، فإذا صح عند بعضهم أن مصر هى أمه، فإن مصر الآن – بكل هذا الذى يحدث – لا تزيد عن كونها "رقاصة" فعلا !

مصر العربية

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -