تترافق مع صناعة بيئة الاستخفاف صناعة أخرى تتعلق بتشكيل الرضا الكاذب، بحيث تجعل أهم أهداف الفرعون أن ينال هذا الرضا في إطار استقرار إكراهي أو إذعاني ليحقق بذلك أهدافه في صياغة شبكة العلاقات الفرعونية وذلك من خلال ممارسات متنوعة تتمثل في أكثر من مدخل تمارسه الصناعة الفرعونية ، إنها الصناعة المستمرة يمارسها كل نظام استبدادى وتشكل الحالة الانقلابية فى مصر حالة نموذجية فى هذا المقام فى محاولة استغلال كل المسالك التى من شأنها توطيد صناعة الإذعان.

1ـ التشاور الشكلى : وترتبط بذلك أداة أخرى تشكل أهم أدوات الفرعونية في تشكيل عملية الرضا الكاذب وهي ممارسة التشاور بصورة شكلية مفرغة من كل مضمون مقصدها محاولة إضفاء صورة مظهرية في التعامل السياسي، فإن موسى بقوة رسالته وصدق آياته وحجته، جعل فرعون يقدم على سلوك الشورى ملتمسا الرأي – وهي منافاة لطبيعة العلاقة الفرعونية التي تتسم بالاستبداد- من ملأه وحاشيته، غير أنها تسير وفق خطة الاستبداد وتكريسه، فإنه قبل التماس النصيحة يحدد الخط الأساسي للتعامل مع موسى مؤكدا على هويته وفق فهمه بكونه ساحرا لا رسولا.. "إن هذا لساحر عليم" وهو بهذا التكييف لموسى يقطع على حاشيته وقومه أي خط للتفكير في اتباع موسى، وبما يضمن أن يكون الرأي من جانبهم مؤكدًا لحقيقة استبداده، ومن ثم فهو يتابع أمر التماسه للرأي بتخويفهم منه مرهبا إياهم بفقد المكاسب والمصالح التي حازوها في ظل سلطانه، مؤكدًا ان موسى "يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره"، التشاور الزائف واحد من الآليات الفرعونية فى صناعة هندسة الموافقة وصناعة الإذعان.

2 ـ التفويض: وهو يستخدم فى خطابه أساليب التفويض فى صورة شورية كاذبة "ذرونى أقتل موسى". وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (غافر/27). ولعله من الطريف أن نقف أمام حجة فرعون في قتل موسى:(إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد). . فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال عن موسى رسول الله - عليه السلام - (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)؟!!! أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟، إنه منطق واحد ، يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان، والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين. آليات التفويض لمواجهة العنف والإرهاب المحتمل إنها لغة النظام الانقلابى

ومن ثم فإن العلاقة الفرعونية – في إطار مخططها العام فيما يمكن تسميته بتشكيل الرأي العام – أو التعبئة السياسية وبما تملكه من وسائل قوة تعرف مقدما نتيجة الشورى وفق قواعد التشكيل الكاذب له، إن طلب النصيحة والتماس الرأي والشورى كل هذا غير ذي معنى.

وتكمل الحاشية هذه الخطة في نقل تلك الأفكار إلى الرأي العام، فتردد نفس مقالة فرعون "ويأتيها الرد بنفس الاتجاه الذي أراده، في إطار يوحي بالإجماع والرضا وهو غير ذلك".

قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ، قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (الشعراء/ 34ـ37) أما قول الملأ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (الأعراف/ 109-112)

الاستجابة هنا تبدو بذات الترتيب والألفاظ على كافة المستويات بما يدل على تمكين الفرعونية وتسلط أجهزتها في تشكيل الرأى العام.

3ـ الاستبداد والتعبئة الجماهيرية: وفي هذا الصدد فإن أداة هامة من أدوات الفرعونية في إطار عملية تشكيل الرضا الكاذب ضمن خطة الاستبداد، هي التعبئة الجماهيرية السياسية بما يجعل أهم وظائفها إضفاء الشرعية على تصرفات النظام السياسي وحركته، إن التجمع الشعبي في قصة فرعون جعل هدفه تشجيع "السحرة لتحقيق أهداف النظام" وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ ، لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (الشعراء/ 39ـ 40) إنها سياسات الحشد والتشكيل الغوغائى للرأى العام وصناعة التعبئة ،سياسات تتعاضد وتتساند ضمن عملية استدعاء مستمرة تستغل ما أمكنها تلك الحشود.

وفي إطار عملية التعبئة يأتي دور "السحرة – باعتبارها الفئة المرشحة لمجابهة موسى بالمطالبة بالأجر وما هو أهون ذلك على الفرعونية بل زادتهم ترغيبا فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ، قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (الأعراف/ 113/114) صناعة الترغيب.

4 ـ صناعة الأزمة: يُعد التفسير للأزمة بغير عللها وأسبابها والتلبس بصدد أسبابها الحقيقة من أهم أدوات الفرعونية والعلاقة السياسية الناجمة عنها حيث تعفي الفرعونية من مسؤوليتها عن أخطائها وسياساتها على طول الخط وتقع على عناصر أخرى أسباب الأزمة. ويتبين ذلك من العرض القرآني الموضح لموقف أطراف وعناصر العلاقة الفرعونية السياسية من الأزمة.

- فالطاغية لا تفيده التربية بل أن أزمات التنبيه من الغفلة وسوق الآيات المرسلة للوعظ والتذكير والإنذار لفرعون وقومه لا تعدو أن تكون سوى تأكيد على ذلك التحدي السافر للرسالة والاستقرار الراسخ والفظ على أسس العلاقة الفرعونية واستمرارها.

- أما قوم فرعون فإن موقفهم لا يزال يتصف بالاستخفاف حتى في زمن الابتلاء بما يؤكد سطحية العقلية لهؤلاء وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (الأعراف/131) ولكن استجابة التذكر والتذكير لا تأتي إلا لقوم يتصفون بوعي الإيمان الذي يرد الأمور لأسبابها والحوادث لعللها. أما القوم في العلاقة الفرعونية فيرون الأمر على غير حقيقته وبغير أسبابه الحقيقة فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ (الأعراف/131) أي أن هذا هو المناسب لهم أما إذا أصابتهم السيئة وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أي يتشاءمون من وجود موسى ومن معه زاعمين أنهم سببا لأزمتهم، إنها خاصية أخرى تكمل في طبيعة الفرعونية من حيث عدم إرجاع الأشياء إلى أسبابها، بل تصير كل آيات الابتلاء (من قحط الثمرات- والطوفان والأوبئة..) لا تجد محلاً قابلا لفقه دلالاتها (التذكر) إنهم وفق عناصر المصلحة الضيقة والمنفعة الآنية قصرت عقولهم عن إدراك حقيقة الإيمان التزام به فجعلوها وقتيا يزول بزوال الأزمة والابتلاء ومن ثم كان إقرار القوم بصدق رسالة موسى تحت وطأة المعاناه فوعوده بالإيمان وعدا مؤكدًا "لنؤمنن لك" كما وعدوه بتحرير بني إسرائيل وتركهم وشأنهم ليتبعوا موسى ولنرسلن معك بني إسرائيل" ، لكن سرعان ما عاد فرعون إلى طبيعته وكذلك قومه فنكثوا العهد وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (الأعراف/ 134-135) تعليق أسباب الأزمة على عاتق موسى وقومه والتطير بهم إنها شماعة الفشل الجاهزة، وكلام المصالحة فى حال الأزمة ليس إلا رغبة فى تفويت أزمات النظام والكوارث التى تحيق به.

5 ـ المؤامرة الانقلابية: وتبقى الأداة الأخيرة في النموذج الفرعوني وهي اتهام المطالبين بالإصلاح باتهامات "المؤامرة والانقلابية". إن خطة الفرعونية التي بدأت بوصف موسى "بالسحر والكذب" وإلقاء هذا الوصف للملأ ثم للقوم، واستثارة الناس وتخويفهم " يريد أن يخرجكم من أرضكم" إنما تهدف كما في تصور فرعون وحاشيته إلى الاستيلاء على الأرض والممتلكات، وبعد تلفيق التهم تنظم الحملات بدعوى أن موسى عمل بداية لانتزاع السلطة من يده، ومن هنا كانت قولته: أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ (طه/ 57-58) ذلك أن كل من يجعل هدفه السلطة يقع في روعه أن كل نصح أو تذكير إنما يشكل مؤامرة أو "انقلابا يدبر للاستيلاء على السلطة والفرعونية لا تفرق بين أمر فيه خير وآخر فيه فساد، ذلك أن محك خيرية الأمر وفساده يأتي من مقياس استقرار سلطانهم، ومن ثم فإن فرعون ترك جوهر ما دعاه إليه موسى غير مجهد لفكره في رسالة موسى وفهم أهدافها بل كان التفكير المسبق لذلك هو حماية سلطانه، وخطر زواله وتهديد موسى له، بل إن هذا هو ما تحكم في تفسيره لمطالب موسى أن يرسل معه بني إسرائيل معتبرًا ذلك خطرا على استقرار أركان دولته، وكان عليه بعد ذلك أن ينقل هذا التفكير برمته إلى الملأ ونقله من بعد إلى القوم جميعا، إنها صناعة الاتهام والإرهاب.

المؤامرة قد صارت منطقية للفرعونية في التعامل مع دعوة الحق أيا كانت ومن ثم ـ وفي ذات الخط ـ كان اتهام فرعون "للسحرة أدواته بالأمس في عملية التعبئة وأدواته في الفوز على موسى بالمؤامرة "إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون" ذلك أن الأمر وفق تصوره، ليس دعوة حق وجب التسليم بها وإنما هي مؤامرة عليه وعلى حكمه وسلطانه، مبنية على اتفاق مسبق بين السحرة وموسى بدخول المباراة والتظاهر بالتحدي لموسى ثم إعلان الانهزام أمام موسى ثم الإيمان بما جاء به، إنها طبيعة الفرعونية التي تفترض المؤامرة في كل حركة، إنها حتى لو استوعبت الموقف كاملا في باطنها إلا أنها تستجدي لها المبررات والأسانيد مهما كانت واهية في سبيل استقرار سلطانها واستمرار طغيانها، وهكذا تُستخدم المؤامرة كأيسر أداة للفرعونية باتهام الدعاة، للحفاظ على سلطانها وتبرير حركة العنف في مواجهتهم، إنها صناعة المؤامرة.

في ظل هذا الهدف الذي يتعلق بتشكيل الرضا الكاذب تأتي هذه الأدوات الخمس لتشكل العلاقة الفرعونية التي دائما ما يشير إليها فرعون بإنها الطريقة المثلى، مؤكدا على مجتمع القطيع وعلى أعوانه وخدمه من بطانته بحيث يقوم هؤلاء جميعا بصناعة هذا الزيف والتضليل ضمن مجتمع مصطنع لا يتغيا من ذلك إلا أن يُحكم حلقات مجتمع الفسق القابل لبيئة الاستخفاف والمنفذ لكل ما يتعلق بحلقات الاستبداد الفرعونية والتمكين لها.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -