مفهوم "الدولة الإله" ليس غريبا على الفكر السياسي ولا على الواقع المشهود، ولا هو من باب المبالغة والغلو، أو من باب الغضب والكراهية تجاه الواقع الأسود. القول بدولة إله ليس مجال تكفير والحكم على الناس بالكفر المخرج من الإسلام. لكن حديث ألوهية الدولة هو مجال تنبيه إلى خلل كبير جدا يقع فيه الإنسان؛ في تصوراته ورؤاه، وفي تفكيره وتدبيره، وفي سلوكه وحركته. فمنذ بدايات الخليقة وظهر الشرك، واتخذ الناس آلهة مختلفة الأشكال، وأكثرها كانت أشياء هزلية ومضحكة ووضيعة، ومع هذا اتخذها الناس آلهة يقدمون لها العبادة والتقديس، والقرابين من النفس والنفيس، ويحاربون لأجلها ويقتلون ويُقتلون في سبيلها.
في العصور الحديثة لم تتغير سنة الإنسان وضلاله في البحث عن آلهة أخرى؛ ومنها آلهة الهيئات والمؤسسات، وآلهة النظم والأوضاع، وآلهة الأفكار والتصورات، كما تحدث مالك بن نبي عن (الفكرة الوثن)، وتحدث لابوايسيه عن (العبودية المختارة) من الرعية لملك اشتد عليهم ظلمه وحكومة لا تترك وسيلة إلا وطحنتهم بها، وكذلك نظر هيجل لمفهوم (الدولة-الإله) بصفات المطلق الذي يحتوي كل النسبيات؛ ومن ورائه ظهرت الدول الشمولية الشيوعية والنازية والفاشية في أوروبا.
ظهرت "الدولة–القومية" كما نظر لها رواد العقد الاجتماعي بخصائص في سيادتها على الشعب القاطن أرضها حين ندقق فيها نجد أنها من صفات الله تعالى: السيادة المطلقة، الوحدة التي لا تقبل التعدد، النهائية التي لا تقبل المعقب، الشاملة التي لا تقبل التجزؤ، وهكذا. وبالفعل توجهت نماذج هذه الدولة في العالم لتتوغل وتتغلغل ثم تتغول على فعاليات الحياة الفردية والاجتماعية باتجاه هذا المعنى (الدولة الإله).
في مصر ومنذ ما قبل الثورة والانقلاب ظهرت حالتان ظاهرهما التعارض وباطنهما التكامل؛ بين دعوى أن المشروع الإسلامي إنما مآله دولة دينية هي نموذج للدولة الإله التي تفتش في ضمائر الناس وعقولهم وبواطنهم، وواقع لدولة لم تعد ترضى بالمواطنة إلا في إطار العبودية، ولا بالدين إلا في إطار من حاكمية السلطة العلمانية عليه. فُطلب من الديني أن يتنحى عن السياسي والمجال العام، وفُرض على الديني أن يخضع لسلطان الدولة وثقافة نخبتها العلمانية. وكان من ذلك مفارقات وعجائب يراد لها أن تصبح هي القاعدة المعتادة.
وضعت الدولة –من خلال وزارة الداخلية- لمن خرجوا لتغيير النظام ثم وقعوا في أيديها نظاما سمته (التوبة)؛ بمعنى أن من يريد العفو عنه والنظر في أمره فعليه أن يتقدم بإعلان (التوبة) إلى وزير الداخلية؛ شيء أشبه بكراسي الاعتراف وصكوك الغفران، وبالمرة: التوبة لا يشترط قبولها إما أن تقبلها التوبة إذا رأت أن التائب تاب توبة (نصوحا) أو لا تقبلها. والتوبة عبادة لا توجه إلا إلى الله، لا لملك ولا لرسول ولا لسطان ولا إنسان ولا غيره. فالله هو التواب الرحيم. واليوم يعيد الانقلاب الكرة ثانية، فيخرج خطاب قائد الانقلاب بأنه المسئول عن تصحيح (صورة ربنا) التي فشلنا في تقديمها للناس، تعالى الله عما يقول، ثم هو المسئول عن تقديم الإسلام الصحيح، وما أسماه هو (إسلام الدولة).
وضعت الدولة –من خلال وزارة الأوقاف- نظاما للدعوة، يتلقى فيه الداعية التوجيهات من الوزارة، ليس التوجيهات الإدارية والتنظيمية المعتادة، بل التوجيهات الخطابية والدعوية والعلمية، والعبادية أيضا. ومعلوم أن (الدعاء) مخ العبادة وهو العبادة، وأنه لا يدخل فيه أحد بين الإنسان وربه، لكن وزارة أوقاف الاستبداد والثورة المضادة تأبى إلا أن تؤمم الدعاء. أيام العدوان الأمريكي على أفغانستان ثم العراق 2001-2004، والعدوان الصهيوني على الانتفاضة الفلسطينية الثانية، قام الناس يدعون على الأمريكان والصهاينة، فصدر تنبيه بعدم (الدعاء). واليوم يعود الانقلاب إلى السيرة نفسها: منع الدعاء على الظالمين، ومراقبة التراويحوالصلوات لهذا الغرض، ويحال أئمة إلى التحقيق وينقلون عن مساجدهم ومواقعهم لهذا الأمر: منع الدعاء على الظالمين. والله تعالى يقول: ألا لعنة الله على الظالمين. وآيات الأخذ على الظالم وتوعده ولعنته لا تعد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل في فطر أصحاب الفطرة والعقل.وغفل كل هؤلاء عن المعنى الكامن والظاهر"ادعونى أستجب لكم" ،" وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداعى إذا دعان".شكلوا من أنفسهم حراس بوابات للدعاء المسموح والممنوع،واغتصبوا مساحاته ،الدعاء لم يعد شأنا بين العبد وربه.
وضعت الدولة -من خلال جهاز إعلامها وفنانيها- صورة معينة للتدين والالتزام؛ هي صورة (الإسلام الجميل يا أستاذ محمد)، إسلام الأربعة المبشرين بالجنة، وعمرو بن العاص من أولياء الله الصالحين، والفنانة التي ستؤسس قناة دينية لتعلم الشباب (الإسلام الوسطي)، ودين مفتي (النيو لوك يا أستاذة رجاء)، ودين (كل اللي ما يرضيش ربنا احنا بنؤيده وندعمه ونقف معاه..).. وقدمت أي تصور آخر باعتباره تشددا وتطرفا، وتخلفا ورجعية، ودقة قديمة ومتاجرة بالدين. بل هو الإرهاب الذي يهدد الدين، وهم –الدولة وإعلامها وفنانوها- الحراس المسئولون عن الدين الصحيح.
وضعت الدولة –من خلال وزارة الثقافة ومجموعاتها المعروفة وبذات المعزوفة والاسطوانة المشروخة - صورة معينة لعلماء الدين؛ صورة الزينة والحلية والبركة والحضور المشرف. لا مكان لهم في مرجعية ولا مشروعية ولا دافعية ولا مانعية ولا فعل ولا فاعلية. وبعد الثورة ونظرا للحاجة المؤقتة إلى حضور ديني استدعت الجوقة المثقفة شيخ الأزهر لتضرب به التيار السياسي الإسلامي، وألفت معه وثيقة (الدولة المدنية).
بعد الانقلاب بدا أن الدولة تريد حصر الإسلام في مؤسسة ما: ما تقوله هو الإسلام، وما عداه فهو التطرف. ولم يكن ذلك اقتناعا بدور جديد لهذه المؤسسة أو علمائها، اللهم إلا تثبيت الانقلاب وشرعنته ولو ظاهريا، ثم يعود كل إلى جحره. فقام مفتي العسكر والأستاذ الأزهري والدكتورة الأزهرية والمذيع الأزهري بإسباغ كل كمال على قائد الانقلاب والطرطور: تواترت الرؤى من لدن رسول الله أنكم لمنصورون، نعم يعني yes، أبدع دستور عرفته مصر، مبعوث العناية الإلهية، رسولان أرسلهما الله كما كان موسى وهارون، بيفكرني بعمر بن الخطاب، والإخوان خوارج، وعلى الزوج أن يطلق الإخوانية، إقتلوهم..ريحتهم نتنة، ولو كان ربنا بيحبه كان خلق شكله حلو، وهكذا... وحملة الصلاة على النبي مؤامرة،.. والتراويح بمواعيد، والاعتكاف بموافقة أمنية، ولابد من ملء استمارة تتعرف فيها الدولة على الفائدة التي ستعود على المعتكف من الاعتكاف، ولا مكان لغير الأزهري التابع المطيع على المنابر ولا في الدعوة وو..
لكن يبدو أن هذا إلى حين. فبعدالانقلاب رجع جابر عصفور يطعن في مكان الدين من الوطن، وهاجم الأزهر، وهاجمه وكيل الأزهر واتهمه ووزارته بنشر الكفروالإلحاد والإساءة إلى مقام الله تعالى ومقام كتابه ورسوله... تلك اللعبة التي لطالما شغلوا بها المصريين في عهد اللامبارك لا بارك الله فيه.
السلطة الانقلابية تفعل في الدين ما تشاء، فبعد أن كان شعارهم الدين لله والوطن للجميع، صار الدين للدولة والوطن للعسكر والانقلابيين.
في دولة العسكر ووطن الانقلاب: الدولة لها دينها ولا دين إلا دينها ماأسمته (إسلام الدولة)، ومن أراد أن يدخل في الدين الجديد فلا عليه إلا الإذعان والتصفيق والتطبيل والرقص والتأييد، وكأن لسان حال سلطة الانقلاب يقول "ما أريكم إلا ماأرى وماأهديكم إلا سبيل الرشاد"ويؤكد بفعله قبل قوله "ما علمت لكم من إله غيري؟!"،إنها دولة فرعون الجديد واستبدادها العتيد.
مصر العربية

0 التعليقات:
Post a Comment