من يحاكم من؟ متى؟ وأين؟ كيف؟ ولماذا؟ وإلى ماذا؟.

فى إطار مهرجان "البراءة للجميع" ومسرحية الحكم بناء على الأوراق وتحريات الشرطة وادعاءات الشامخ أنه يتعامل مع القضايا بحرفية وفنية نزيهة وعمياء، وفي متسلسلة الإفراجات عن رموز النظام الذي قامت عليه ثورة يناير، يأتي مشهد مرافعة أو "خطبة العادلي" (أولا وقبل أن تتوالى خطب العائدين) هذه الأيام ليكشف عن لحظة فارقة ومنعطف خطير في مسيرة الثورة ومستقبل النظام السياسي.

تحليل " اللحظة العادلية والمباركية" في إطار البحث عن حقيقة ما يجري بمصر منذ 30 يونيو، واستكشاف المزيد من عناصر الحالة الانقلابية منذ 3 يوليو، من الأهمية بمكان. هذا التحليل يزيل المزيد من الأقنعة والأغطية والستائر والأحجبة، ويحل ما تبقى من ألغاز أو أسئلة لضعيفي البصر والبصيرة الذين مازالوا يماطلون في حقيقية الانقلاب وطبيعة المستهدف منه، وما يرمي إليه من غايات، وما وراءه من قوى وأطراف، وما خلفه من شبكات التحالفات والمصالح والجهات وأنظمة إقليمية ودولية، وما يدفع بالوطن في اتجاهه من نظام حكم ونظام سياسي واقتصادي وثقافي، وما يتطلبه من نوعية مجتمعية على مقاسه ومزاجه.

(اللحظة العادلية) فارقة؛ لأن مشهدها محمل بالكثير من العناصر والدلالات والبينات التي تجب أن تنقلنا من حديث الثورة المضادة والانقلاب (وهو حديث حقيقي ومستمر)، إلى حديث "الاستبداد الجديد" ومقوماته ومعالمه، وقواه وموارده، وخططه وترتيباته، وأنظمته وشبكاته، ومن ثم استراتيجية مواجهته ومدافعته، والقوة والفعاليات اللازمة لذلك. فهو الحديث الأكثر واقعية وعملية اليوم.

وقف حبيب العادلي في محكمة هي بكل جدارة، (محكمة ثورة مضادة)، وقف –أولاً- خارج القفص، ليعلن لمن يري -إن لم يسمع- أن نظام مبارك صار خارج القفص، لم يعد هناك ما يقيّده أو يحدّ من حريته وحضوره وفاعليته وعودة سلطانه وسلطته وسطوته.

وقف خارج القفص في قميص ليس فيه من قميص الحبس شيء إلا بقايا لون أزرق تكاد لا تلحظه. وقف خارج القفص ليس وقفه المتهم باعتقال وطن 14 سنة، ولا بإرهاب شعب، ونشر ثقافة الخوف والإرهاب والرهبة والذل والخنوع والإذعان، ولا بشل الحياة السياسية والعامة بفعل جهازه الذي يسميه (الجهاز) وفقط؛ يقصد جهاز أمن الدولة، الذي شهد القاصي والداني ببشاعته ومحقه لكل معاني الحرية والكرامة والأمن والأمان لدى المصريين.

وقف العادلي ليس بوصفه متهماً بقتل المئات من الشباب والفتيات في ميادين مصر منذ 25 يناير كما ثبت من قبل وشهد به ضباط شرطة وغيرهم، وحُكم عليه به، ليس بوصفه عدواً لثورة مصر التي ركب موجتها الجميع، وتنكر لها كثيرون اليوم، ليس بوصفه عدو لثورة سجل دستور الانقلاب أنها مجيدة وعظيمة وأساس المستقبل والحياة السياسية القادمة، ولا تزال بعض أبواق الانقلاب تلصق نفسها بها، ولو على استحياء.. لم يقف هكذا مطلقا، إنما وقف وقفة أخرى.

وقف حبيب العادلي في محكمة لا تحاكمه ولا تخاصمه ولا تسائله ولا تحاسبه ولا تقاضيه، إنما محكمة تراضيه، وتكرمه، وتقول له: حضرتك، وسيادتك، وبعد إذنك، ولو سمحت...إلخ، على لسان من يجلس على كرسي القاضي مبتسماً محترماً هائباً مؤدباً.. في محكمة ليس فيها من معني "المحكمة" أو "المحاكمة" إلا معاني "الضدّ": إن من يُحاكَم هو الذي يُحاكِم، ويستحكم، ويتحكم، ويَحكم.

في المحاكمة الأولى وقف القاتل متهماً، وثبتت إدانته، هو ومساعدوه ورئيسه وابناه وعدد من رموز الاستبداد والفساد...

لكن اليوم وفي هذه المحكمة الجديدة يقف المتهم شاهداً، ولكنه ليس كأي شاهد، إنه الشاهد النافي التهم عن نفسه، الشاهد النافي جرمه وجرائمه؛ ليقول: إنها كانت مهاماً وطنية، وواجبات ومسئولية مرعية، وأداء مبهراً معجزاً، وإنجازات تستحق الإشادة والتقدير والعرفان والامتنان من الجميع... وقف المتهم شاهداً على الثورة أنها كانت مؤامرة كبرى، وجريمة نكراء، وكارثة حلت بالوطن، ونكسة يجب تداركها، ويجب تعقب من شاركوا فيها، ومعاقبة من أيدوها وساروا في ركابها...

وقف العادلي ومعه أوراقه الجديدة، يتطلع إليها بنظرات عابرة كي يتحدث بعد ذلك من عنده، بغير قراءة حرفية كما كان في المحاكمة الأولى. يتحدث بكل أريحية لا يحوزها أحد غيره في المحكمة، حتى القضاة الذين جلس كبيرهم جلسة التلميذ المهذب يستمع ويصغي ويومئ برأسه إيماءة المتابعة والموادعة والتشجيع والمهاودة على الإكمال بلا تعليق يذكر ... إلا ليختار الشاهد (العادلى) النقطة التي يريد ويحب ويسمح أن يقف عندها للراحة قبل أن يعود ليكمل.

وقف العادلي يحكي قصة الثورة على طريقة ألف ليلة وليلة، ويشقق ويتفرع ويفّصل، ويذهب ويعود، ويضحك ويسخر، ويُضحك القاضي ومن حوله ومن يسمى المحامي العام، ويشير إليهم إشارات المحاضر المستحوذ على أسماع الحضور، ويشير إلى نقاط سابقة وأخرى لاحقة، بمنتهى الثقة والطمأنينة التي تنقله من حيز المتهم أو الشاهد أو حتى المترافع، إلى حيز "المدّعى العام"... وربما القاضي الذي يفصّل في حيثيات الحكم... الحكم الذي لن يصدر على العادلى سواء بالبراءة أو بالإدانة، إنما سيصدر من قبل العادلى نفسه، بل هو صدر أصلاً ببراءة ساحة نظامى مبارك قبل الثورة وأثناءها من أي عيب أو نقص أو خطأ، فضلاً عن خطيئة أو جريمة... وفي المقابل حكم العادلى بإدانة ثورة يناير؛ المؤامرة الكبرى، والتي تخللتها جرائم من جميع من شارك فيها: خيانة، وعمالة، وإرهاباً، وقتلاً، وتآمراً على مصر.

وقف العادلى محامياً عاماً أو مدعياً عاماً أو قاضياً يحكم ويحاكم ... يحاكم الثورة... نعم إنها محكمة الثورة المضادة وقوى النظام البائد تعود من أجل "محاكمة ثورة يناير"؛ محاكمة أصلية شاملة متكاملة من البذور والجذور إلى الجذوع والأوراق والثمار.

لقد أصبحت رواية النظام المخلوع رأسه –خاصة بعد مرافعة فريد الديب الأخيرة- هي الرواية العليا والأساسية عن ثورة يناير، وعن النظام الذي قامت عليه، وعن الأحداث التي جرت فيها، ثم جرت بعدها إلى اليوم، مروراً بدور المجلس العسكري، ودور القوى السياسية، ودور الإخوان المسلمين، والقوى الإسلامية، ودور الشباب، ودور الرئيس المدني المنتخب، وأخيراً دور تمرد 30 يونيو وانقلاب 3 يوليو الذي لم يعد وفق هذه الرواية .. إلا (ثورة تصحيح أوضاع).

نيابة عن نظام اللامبارك، يقف حبيب العادلي، وزير الداخلية الذي قامت عليه ثورة يناير كرمز مكثف لشرور وفساد واستبداد النظام البائد، يقف ليحاكم بنفسه وبمنتهي الثقة ثورة يناير وقواها وأحداثها، وأمام قاض في صورة مجند مستمع مطيع.

اليوم يحدث هذا، وما كان له أن يحدث إلا اليوم ... يوم أن اكتمل سيناريو الانقلاب على الثورة، حتى صار قائد الانقلاب رئيس مصر (المنتخب/المنقلب)، يوم أن جنت 30 يونيو بتوابعها ثمرتها الخبيثة، بعد أن رواها ممثلوها بماء الانقلاب في 3 يوليو، يوم أن ساوى كثيرون منا بين الفعل السياسي المعارض، وبين الثورة المضادة، يوم أن عمي المغرورون عن الخصم بل العدو الأساس لثورة يناير، وشيطنوا المنافس الديمقراطي وضربوا بالشرعية –كمبدأ- عرض الحائط وهم مستكبرون، وظنوا أنهم يصلحون أو يحسنون صنعاً وهم المفسدون ولكن لا يشعرون.

اليوم بعد أن شعر المنقلب واهما أنه تمكن وأن انقلابه اعتدل واستوى على سوقه، وأن الشعب قد خضع، وأن الشباب قد رجع.

وفي المكان المناسب؛ في ساحة القضاء على القضاء، في ساحة شموخ الانقلاب والانقلابيين، في المكان الذي احتوى الثورة باسم القانون والإجراءات والأوراق والشهادات... واحتضن الثورة المضادة باسم استقلال القضاء، وطارد مقاومي الانقلاب: إعداماً وأحكاماً هزلية وسرعة انتقائية وحالة انتقامية... حتي وصل بأنه يمكن تسميته بالضربات الوقائية والاستباقية... اليوم يتيح للثورة المضادة ساحة آمنة مطمئنة، ومشهداً احتفالياً مهيباً، وفصلاً أخيراً من المسرحية .. الملهاة .. المأساة معاً..

وعلى الهواء مباشرة، ولكي يشهده الجميع، لأنه إعلان وبيان بعودة النظام ومحاكمة الثورة، يجب على الشعب كله أن يحضر المشهد النهائي من المسرحية، لكي يخرج من المسرح وقد وصلته الرسالة، وصلة الانذار الأخير، ورأي بأم عينيه العودة المظفرة لحبيب العادلي ومنظومته، التهيئة للتبرئة، والإعداد للانقضاض وإجهاض ما تبقى من الثورة ولون الشعور والوجدان ولو في الفكر والإذهان، ولو على الذاكرة والحسبان.

بينما في محاكماتهم الانتقامية، من صوته محبوس في صندوق زجاجي، يخافون أن يصل نفَسه قبل أن تصل كلمته إلى الناس، وإذا تحدث هدده القاضي وتوعده واستأسد عليه، وادعى من كل طريق أنه يرفع صوته أو يهين المحكمة والقضاء.. تكرر ذلك المشهد في كافة المحاكمات، ليس فقط مع رئيس الدولة المختطف المنتخب المدني، ولكنه تكرر مع الدكتور البلتاجي ومع صفوت حجازي وحازم صلاح أبو إسماعيل، ومع كثيرين محاولين بذلك كتم الأصوات وتكميم الأفواه...

إن مقارنة بين المحاكمات الانتقائية الانتقامية وبين هذه المحاكمات إنما تعبر اننا صرنا أمام مشهدين من التقاضي... مشهد يترافع فيه هؤلاء الذين قامت عليهم ثورة 25 يناير فيكيلون الاتهامات للثورة ولكل ما يتصل بها من قريب أو بعيد ويتهمونه بالعمالة والخيانه والتخابر، مع كيل كل الاتهامات للثورة ذاتها بدءاً من أنها مؤامرة أمريكية ومروراً بالتمويل الخارجي، وانتهاء بالتخابر مع أجهزة مخابرات عالمية ودولية.

أما المرافعات والإجراءات فحدث ولا حرج... إن قاضياً يقوم بحكم على الناس بالإعدام وتحويل أوراقهم إلى المفتي، حتى إن ارتكب أخطاء فادحة إلى حد أن نبه من بين هؤلاء رجل مسيحي متهم بالانتماء لجماعة الإخوان، وإلى أن من بين من حكم عليهم بالإعدام أطفالاً لم يبلغوا السن القانوني، وأن من بينهم من قضي بالفعل ومات في أحداث أخرى سابقة... وأن كل محاميا تجرأ وانتقد الإجراءات وطريقة التقاضي وضع في عريضة الاتهام، وصار متهما معرضاً للحكم عليه بالإعدام أو بالمؤبد.

تم كل ذلك في وقت قياسي... فلو أعطي لكل واحد منهم ست ساعات مثلما أعطي هؤلاء الفلول، ماذا كان سيقول أو يدافع عن نفسه؟ ولكنها محاكمات انتقائية تقوم على قاعدة "دولة المساخر"، حينما تحاكم الثورة المضادة بأركانها نفسها في تمثيلية واضحة ومسرحية هزلية فاضحة.

بينما هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم، الذين كتمت أصواتهم وحكم عليهم بالإعدام غيابياً، ليس من حقهم الكلام، بل فقط من حقهم المطاردة والاعتقال والإعدام.

كل ذلك ليعلم القاصي والداني أنه لا ثورة بعد اليوم، وأنهم عائدون بكل قوتهم وسطوتهم وأن الأمر قد استتب للانقلاب، وهو ينتقل إلى إعادة الأمور إلى نصابها ونصّابيها.

لكن هيهات ... تكشفت شبكة المصالح، شبكة التحالفات المجتمعية والاقتصادية، الثورة المضادة تعينت، أصبحت تشير إليها بالبنان.

من يحاكم من؟، الثورة الحقيقية تحاكمها الثورة المضادة ، قد تأخذ الأرض الانقلابية زخرفها، وتزين للانقلابيين، ويخيل إليهم أنهم قادرون عليها... وفي باطن الأرض ما سيرون... وفي قريب الأيام ما سيعلمون.. وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -