قبل نحو خمسة عشر عاما، قرر صديق من أبناء بلدتي أن يعفي لحيته!
طبعا تتساءل: إيه المشكلة؟؟!!
في الحقيقة كانت هذه مشكلة خطيرة. ففي ذلك الحين كان جهاز أمن الدولة قد أحكم سيطرته على مفاصل الدولة بعد صعود مدير الجهاز حبيب العادلي إلى كرسي وزارة الداخلية عام 1997. وكان إطلاق اللحية يقود تلقائيا إلى فتح ملف لصاحبها لدى الجهاز على نحو يجعل اعتقاله والتحقيق معه بل وإهانته وتعذيبه من الأمور المحتملة جدا.
المهم .. صديقي الذي كان يعلم هذه الملابسات اتخذ قراره ومضى فيه. يوما بعد يوم نما الشعر في وجهه إلى مستويات تنبيء بنواياه، فما كان من والده وإخوته إلا أن أبدوا ضيقهم بالتغير الذي طرأ عليه .. ثم أصبح بعدها توبيخ صاحبنا والتضييق عليه في مواعيد الخروج من المنزل والعودة إليه من روتين الحياة اليومي رغم أنه حينها كان قد تخرج من الجامعة وقضى تجنيده والتحق بالعمل في أحد المصانع وأصبح يسهم بنصيب في ميزانية البيت. بمرور الوقت اشتد غضب الوالد وصارت حياة صاحبي قريبة من التعذيب الذي يلقاه المعتقلون في السجون! وكان مما قاله الأب لولده الملتزم "لو بتوع أمن الدولة اعتقلوك أنا هاموت وقلبي غضبان عليك"!!
وقتها نصحت صديقي الخلوق الحافظ لكتاب الله ألا يُغضب أباه تحت أي مبرر، رغم تعاطفي معه لقناعتي أن مظهر الإنسان يدخل في إطار حريته الشخصية وخصوصا إذا لم يكن مخالفا للدين أو العرف. لست أذكر ماذا كان من أمرهما بعد ذلك، لكن الشاهد من هذه القصة بالنسبة لي يكمن في تلك العبارة العجيبة: لو أمن الدولة (الظلمة المجرمين) قبضوا عليك (يا بني يا حبيبي) أنا هاموت وقلبي غضبان عليك (غضبان عليك انت يا بني مش على الظلمة!!) .. إيه يا حاج؟ مافيش سيرة خالص إنك هتدعي عليهم أو تزور ابنك في السجن؟؟؟!!!
................................................
قريب من هذا النمط المشوه في التفكير وتصريف الغضب، أراه في تعليقات بعض الأصدقاء عندما تأخذهم الحمية على دينهم ووطنهم وثورتهم فيشرعون في صب اللعنات على قيادات الإخوان المسلمين وسلقهم بألسنة حداد. صحيح أن تلك القيادات أظهرت مستوى سياسيا بائسا لا يلائم الأحداث الجسام التي مرت بها مصر على مدى السنوات الثلاث الماضية، وأعملت الاطمئنان وحسن النية في مواضع كانت تقتضي إعمال الحذر وسوء الظن. لكن الصحيح أيضا أننا في زمن ليس فيه وحي من الله يتنزل لتصويب خيارات الحياة الخاطئة وإرشاد الناس إلى السبيل الأقوم فيما يخص أمور السياسة. كما أن أشد المتشائمين تطرفا لم يكن ليتصور أن بين ظهرانينا كل هذا العدد من الخونة والمجرمين والحمقى.
تذكر أنه كان هناك نظام ديمقراطي وليد أوصل إلى الحكم رئيسا مدنيا، أتاح بدوره للمصريين هامش حرية غير مسبوق، ولم يسرق ولم يقتل ولم يعذب أحدا كسابقيه (ولاحقيه!) واجتهد قدر وسعه وطاقته. لكن الدبابة حسمت الأمر، وأعادت دولة مبارك بأركانها كأشرس ما تكون، فقتلت وعذبت وسجنت وأفسدت في الأرض وأخرجت الأبرياء من ديارهم ووطنهم إلى المنافي بغير حق. هذه هي الحقائق الكبرى، وما خلا ذلك تفاصيل وهوامش. فإن أردت أن تغضب فاغضب كيفما شئت وانتقد كما شئت، فقط .. اصرف غضبك إلى الوجهة الصحيحة وبالمقدار المناسب ولا تضع المجتهد المخطيء في الكفة ذاتها مع المجرم المفسد.
................................................
ـ الكلام أعلاه ليس موجها إلى أصحاب النفوس الوضيعة، الذين أظهروا الشماتة في ترحيل قيادات الإخوان من قطر. فهؤلاء مطموسو البصائر عُمْيُ القلوب ولا أظن النصح يجدي معهم، فأمرهم إلى خالقهم.
مقال رائع
ReplyDelete