أي قهر، وأي ذل، وأي مرار، ذلك الذي أشعر به حيال صورة محمد سلطان وهو نصف ميت أمام أبيه الذي انكفأ عليه باكيا؟
وكأنها القشة التي قصمت حمولة صورة علاء عبد الفتاح في خيالي يوم أن أخبروه بموت أبيه المناضل أحمد سيف الإسلام، بينما هو سجين .. ابن يبكي أباه، وأب يبكي ابنه، هذا هو الوطن إذن.
أرجوك أن تسامحني، فقد تعودت أن أكتب لك وحدك، بيد أنني لا أقوى على مرارة الصورة وحدي، ولا أجد في الكتابة لك من دوني علاجي اليومي المعتاد، آثرت هذه المرة أن أستدعي بعض الأصدقاء، من ثقيلي الظل، عسى أن يكون في في وجودهم أنس، وسلوان.
يخبرني "ديبور" أن ثمة صلة قرابة بين الموت والتصوير، ألم تر إلى المصور وهو يصوب نحو الهدف ويضغط الزناد، إنه يقتل اللحظة، يحولها إلى حضور وهمي، تذهب اللحظة إلى غير رجعة، يذهب الأصل، وتبقى الصورة.
فأخبره أن اللحظة تعيد تدويرها في صورة أخرى، الموت عندنا لا يقتل أهله، والظلم في معجم الحاكم العربي يعني الخلود، يروح خالد ويأتي سلطان، ابن يبكي أباه قهرا، وأب يبكي ابنه قهرا، لا فرق، فالموتى سواسية أمام الموت، أما الصورة فباقية، وإن بدت نسب التكوين مختلفة.
يتوجس "رولان بارت"، من هذا المنطق الذي يبدو دفاعيا فيقاطعني مؤكدا أنه لم يشعر يوما بأصالة الصورة، وأن كل مرة كانت تؤخذ له لقطة بالكاميرا كان يراوده إحساس بالزيف وعدم الأصالة !!
تلك اللحظة زائفة إذن؟!، دموع علاء، وقهر صلاح سلطان، ومن خلفهم آلاف الثكالى والمنكوبون في آبائهم وأبنائهم، وذويهم، ظلمات بعضها فوق بعض، فليسكت صوت بارت، وليتكلم التاريخ، تاريخنا الأخرس.
يعود "بارت" ليخبرني بأن الصورة لا تخلق التاريخ، ولا تستعيد الماضي، إنما هي فقط تشهد أن ما حصل قد حصل، فأقول له: الصورة في بلادي لا تشهد إنما تحفز على التكرار، يمسك العسكري بالكاميرا ويقف آلاف الضحايا أمام فوهة العدسة، ويسطع الفلاش.
موضوع الصورة عند الفلاسفة يرتبط بالموت والأشباح وحضور الغياب وعودة الأموات كما يقرر ذلك عبد السلام بنعبد العالي في كتابه "الفلسفة فنا للعيش"، هل حقا قتلتنا الصور، وحنطتنا الفرجة، صار بكاؤنا صورة، وحراكنا قعودا للمتابعة؟ هل تحول الشهداء إلى مجرد صورة؟ هل تحول المستضعفون إلى صورة، هل صرنا زبائن في معرض جرائم العسكر، نشاهد، ونعلق، ثم نمضي؟.
يدخل فالتر بينيامين يتأبط سوزان سونطاغ، ويقول الأول: إن الحياة تنتهي، تتفلت من بين أيدينا، والصورة وحدها تحفظ لنا ما يغيب عنا، ولا ندركه، توافقه سوزان بإيمائة رقيقة، فأقول لهما: إن موتنا ثابت، لا يتفلت، والصورة هي شاهد القبر.
يعود عبد السلام بنعبد العالي ليعلمني كعادته زاعما أن الناس في دنيا الناس قد ابتكروا الصورة ثورة واحتجاجا على الانفلات، أعيد النظر إلى صورتي علاء عبد الفتاح وصلاح سلطان وأكتشف أخيرا لماذا أعشق الانفلات.
لماذا لا تتغير الصورة؟، يتغير الزمان، ويظل العسكر هم العسكر، المحتل مثل أبناء جلدتنا، كلهم قاتل، وكلنا ضحايا، زهران يتدلى مع رفاقه من مشانق الانجليز كي يحظى فتحي زغلول بترقية، أخبرونا أنهم إرهابيون، شهدي عطية يموت في حفل تعذيب وحشي وهم يطالبونه بتشف أن يقول: "أنا مَرَه" فيموت رجلا، أخبرونا أنه هبوط في القلب، يتبعه سيد قطب على المشنقة ذاتها، تلك التي ربطوا فيها سليمان خاطر وأخبرونا أنه منتحر وأنه معتوه، جثث المدفونين تحت القناة لا صور لها، آلاف المقتولين قبل شهدي وبعده، لا أصدقاء يرووا لنا ولا صورا، آلاف المعذبين داخل المعتقلات، وملايين المقهورين خارجها، العذاب والقهر خبزنا اليومي، يورثنا آباؤنا سجونهم، فيبكوننا ونبكيهم، ويضحك صاحب دولة الظلم، في بلادنا دولة الحق ساعة، هذه هي الصورة، صورة علاء عبد الفتاح يبكي أباه، صورة صلاح سلطان يبكي ابنه، صورتنا.
يارب .. ما زلت أثق بك، بيدك الحانية على كتف المظلوم ضد القهر، والظلم، والاستبداد، بلطف خفي، وحكمة متعالية من وراء كل قضاء، لكننا تعبنا، يارب تعبنا، كلما رأيناهم ازددنا عجزا وقهرا، فكيف بهم؟، يارب يارب يارب.
0 التعليقات:
Post a Comment