ليس عيبا أن تنظر الأمم والشعوب فى فترات التراجع ولحظات الأزمة من حولها، وتنفتح على معارف وعلوم وخبرات «الآخرين» الذين أصابوا بعضا من التقدم وتجاوزوا الأزمات بشىء من النجاح لتطوير الوعى الموضوعى بها وللإفادة منها.
هكذا انطلق الأوروبيون منذ قرون قليلة فى مسارات التقدم وتركوا ظلام وجهل وفقر العصور الوسطى من ورائهم، وارتبطت بداية من البدايات الكثيرة بترجمة شاملة للحصاد الأخلاقى والفكرى والعلمى والثقافى للحضارات العربية ـ الإسلامية وبتعمق فى دراسة معارف الإدارة العامة وعلوم الاجتماع التى كان للعرب فيها آنذاك الباع الأطول.
هكذا تعلمت المجتمعات الأوروبية وبعض المجتمعات الشرقية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من التفوق العلمى والصناعى والتكنولوجى لبريطانيا (وبدرجة أقل لأمريكا الشمالية)، ونشطت فى اليابان وروسيا القيصرية ومركز الدولة العثمانية والامبراطورية النمساوية-المجرية وفى بروسيا قبل الوحدة الألمانية الأولى (1870) وفى ألمانيا الموحدة أعمال الجامعات والمؤسسات البحثية والمنتديات الفكرية والعلمية لترجمة المعارف والعلوم من اللغة الإنجليزية إلى لغاتهم وللتعرف عن قرب على «أسرار» الثورة الصناعية البريطانية والنهضة العلمية والتكنولوجية.
هكذا سعت مصر أيضا فى القرن التاسع عشر إلى نقل المعارف والعلوم والفكر والثقافة والفن والعمران من أوروبا إلى ديارنا واجتهدت طوائف «المبعوثين» بعد العودة على مدار عقود للمزج بين الإفادة من تقدم وحضارة أوروبا البازغة وبين قراءة إيجابية لتراثنا لا تتنكر له وترفض تقسيم المجتمع إلى قطاعات «حديثة» وأخرى «تقليدية» وتعمق من الانفصال بين «الأستاذ» و«الشيخ»، ولم تكتمل مغامرة القرن التاسع عشر المصرية إلا لأن الطبيعة الاستبدادية للحكم حالت بيننا وبين مناخات الحرية والعقلانية وحكم القانون اللازمة لإنجاز التقدم ولأن القوى الكبرى تكالبت علينا وأرادت تقزيم الدولة المصرية الحديثة ودفع المجتمع إلى صراعات لا تنتهى بين الجديد والقديم، بين الأصيل والمبتدع، بين الحديث والتقليدى، بين الأستاذ والشيخ.
هكذا حاولت شعوب المستعمرات فى القرن العشرين أن تلحق بركب البشرية المتقدمة بالمعرفة والعلم والتصنيع، تارة بميل إلى المعسكر الغربى وتارة بالتحالف مع الاتحاد السوفييتى السابق وتارة بعدم الانحياز والسير فى مسارات غير صدامية، ولم تغب فى جميع الأحوال أعمال الترجمة وموجات الابتعاث إلى الدول الكبرى. وبينما آلت محاولات كثيرة إلى الإخفاق إن بسبب الاستبداد الداخلى أو بفعل صراعات السياسة الدولية التى لم ترحم الضعفاء، نجحت فى النصف الثانى من القرن العشرين بعض الشعوب الآسيوية والأفريقية والأمريكية اللاتينية فى اختراق ثنائية الشمال المتقدم والجنوب المتراجع.
والآن، ومصر وبلاد العرب تعانى إما من ويلات الاستبداد أو الإرهاب أو التدخل العسكرى الأجنبى أو منها جميعا، أليس حريا بنا فى مصر فى مجالات المعارف والعلوم والتكنولوجيا والفكر أن ننفتح على المتقدمين شرقا وجنوبا قبل غربا وشمالا وننقل منهم بوعى نقدى بجانب تطوير قدراتنا الذاتية؟ أليست مؤسسات عامة بعيدة عن قضايا الحكم والسياسة كالمجلس الأعلى للثقافة ومراكز البحث العلمى والفكرى فى الجامعات، ومؤسسات خاصة ربحية وغير ربحية معنية بنشر العلم والفكر الحديث والإفادة منهما بقادرة على إطلاق موجة جديدة للانفتاح على العالم ترجمة وابتعاثا ونقلا للمعارف وللعلوم وللخبرات؟ ألا تستطيع أن تسهم فى تخليصنا، وتخليص الشعوب العربية، دون مثالية أو تبعية من سطوة القراءة التآمرية للعالم التى تنتج عن ضعفنا وتراجعنا وخوفنا وتقضى على التواصل الضرورى معه.
غدا.. هامش جديد للديمقراطية فى مصر.
0 التعليقات:
Post a Comment