كانت الأم الفلسطينية تحتضن طفلها في ذلك الفندق الصغير وسط القاهرة، وتفتش في جهاز "الموبايل" عن خبر سار يعلن فتح المعبر. كان الصغير وأمه قد سافرا إلى بيروت، في زيارة عائلية، حين فتح معبر رفح لحظات، بعد توقيع اتفاق الهدنة. وفي طريق العودة، كان المعبر قد أغلق مرة أخرى، لأجل غير معلوم.
في القاهرة، أمضى الاثنان أياماً من الفزع والترقّب، انتظاراً لفتح المعبر، في ظل أجواء مشحونة بالرعب، مع العد التنازلي لمليونية 28 نوفمبر التي عرفت نوعاً من التهويل والتضخيم من إعلام السلطة، على نحو جعل بعض الناس يتصورون أنها يوم الجحيم.
فلسطينية من غزة، وصغيرها في القاهرة الفاشية في لحظة كهذه. هذا يدعو إلى الفزع والرعب، خصوصاً أن غزة صعدت مؤخراً إلى قمة جدول الأعداء المتربصين بمصر، وفقاً للحملة القومية لمعاداة القضية الفلسطينية ومحاباة إسرائيل.
كلما اقترب الثامن والعشرون من نوفمبر، كان مؤشر الخوف يرتفع تدريجياً، فلما كان اليوم السادس والعشرون، توقفت الأم عن التفكير في كيفية العودة إلى وطنها، وانحصر تفكيرها كله في: كيف ستواجه كابوس الثامن والعشرين. واشتعل في رأسها ألف سؤال: ماذا تفعل في ظل حالة الطوارئ الأمنية الرهيبة؟ وماذا تفعل لو صعدوا إلى الفندق، وفتشوا النزلاء، واكتشفوا أن "غزّاوية" مندسّة بينهم؟
وبينما حريق الأفكار يستعر في رأسها، جاء الخبر السعيد: فتح معبر رفح للعالقين في الجانب المصري لمدة يومين فقط. هرولت السيدة للمّ أشيائها، وإنهاء إجراءات مغادرتها الفندق، ثم انطلقت تبحث عن وسيلة مواصلات، تنقلها من القاهرة إلى العريش ثم إلى المعبر.. ومرة أخرى، أسقط في يدها، إذ فوجئت في موقف السيارات بأنه نظراً للظروف الأمنية المشددة، قرر السائقون عدم السفر إلى رفح.
بعد بضع دقائق، أعلنت حركة فتح في القاهرة عن تسيير رحلات إلى رفح، على أن يتوجه الراغبون إلى مكان في وسط القاهرة، وتسجيل أسمائهم وانتظار دورهم، بعد الموافقة على نقلهم. كان ذلك يعني، بالنسبة لها، أن اليومين المحددين لفتح المعبر ربما ينقضيان، وهي في القاهرة، فكرت سريعاً وقررت البحث عن استئجار سيارة خاصة تقلّها إلى المعبر، وتذكرت أن تحتفظ برقم سائق تعاملت معه قبل ذلك، ومن حسن الحظ أنه ردّ عليها، لكنه قال إنه لن يستطيع التحرك قبل منتصف ليل الخميس، ولم يكن أمامها إلا أن توافق.
لا يعلم أحد ماذا حدث مع الأم الفلسطينية حتى الآن، وهل نجحت رحلة العودة أم لا.. لكن المعلوم أن القاهرة التي سكتت عن قتل آلاف من أبنائها، بل وأصدرت تقريراً يدين المقتولين، باتت تتعامل مع فلسطين، وغزة تحديداً، باعتبارها خطراً محدقا بها، بل وتبتعد عنها وتقترب أكثر من "إسرائيل". وبالتالي، لن تهتز مشاعرها أمام مأساة الاحتجاز الإجباري للفلسطينيين العابرين من أراضيها، لم تعد ترغب في أن تقدم لهم شربة ماء، أو تفتح لهم بيوتها.
المعلوم، أيضاً، أن الفلسطينيين في المعبر يتعرضون لكل أشكال الابتزاز المادي، والازدراء المعنوي، حيث يتحول المعبر من كونه رئة للتنفس، ونافذة وحيدة لغزة على العالم، إلى وسيلة عقاب ومقر إهانة.
هي قاهرة غريبة، مجنونة، لا تتورع عن إشعال النار في ماضيها، طلباً لمستقبل وضيع، ومن ثم لم يعد مفاجئاً أن تتعامل مع قضية فلسطين بشكل أكثر بلادة من تعاطيها مع قضية كمبوديا والخمير الحمر.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -