هل أصابت الدماء التي سُفكت هذه الأرض باللعنة؟ هل ما زالت هذه الأرض تتعطش لدماء جديدة ولعنات جديدة؟ هل مازال أهل التفويض والتأييد ودعاة الفرم والسحق والقتل يستطيعون النوم والنظر لأنفسهم في المرآة؟ حسنا فلينظروا لصورة أستاذ الطب بجامعة عين شمس طارق الغندور وقد نام ولده بجواره بعد أن فارقت روحه الحياة وغطت الدماء وجهه ولم يستطع الطفل أن يرى أباه المعتقل حيا وتلاقيا أخيرا على فراش الموت !

عرفته والتقيته وأنا طالب في أول سنوات دراستى بالجامعة أستاذا متواضعا وراقيا وخلوقا يفيض بالحب والمودة على من حوله، يتحدث بصوت هادئ يدلف للقلوب ويأسرها، يحدثك عن بناء شخصيتك وعن دورك الإنسانى كطبيب في هذا المجتمع، يحدثك عن قبول الآخر وحسن المعاملة، يحدثك عن الفقراء وكيف ينبغى أن تحنو عليهم وتداوى آلامهم بلا ثمن، لم أشرف بتدريسه لى لاختلاف التخصص والجامعة ولكن كل من عرفتهم من أصدقائى الذين درس لهم كانوا يحكون عن أستاذ جامعى مختلف يعاملك كصديق وأخ صغير يحرص على أن يورثك العلم ويفيدك بكل ما يستطيع.

لم يكن انتماؤه الفكرى تعصبا ولا تشددا بل كان نموذجا يحبب الناس بأفعاله وأخلاقه ومعاملاته في المسلم المتدين الذي تعمقت بثنايا روحه معانى القرآن فانعكست على سلوكه وأخلاقه، يرتل القرآن الذي يحفظه كاملا عن ظهر قلب بصوت عذب يُشعرك بالقرب من الله والشوق إلى لقاءه والرجاء في رحمته، لم يحفظ لسانه كلمات وسطور من المصحف فحسب بل كان بالفعل نموذجا للتطابق بين الفعل والقول

اختطفوه من بيته في شهر ديسمبر 2013 ومعه عدد أخر من أساتذة كلية الطب واتهموهم بتهم لا علاقة لهم بها كإتلاف المنشآت وتكدير السلم العام والتحريض على العنف ولم تكن له جريمة سوى انتماءه الفكرى المعروف الذي لم يتلبس يوما معه بعنف ولا تطرف ولا خروج عن القانون وكان عقابه لأنه شارك في وقفة مع الطلاب داخل الجامعة للمطالبة بالإفراج عن الطلاب المعتقلين

حكم قاس بالسجن خمسة سنوات له ولرفاقه من أساتذة كلية الطب يصدر بسرعة البرق ليحولوا استاذ الطب والعالم الذي أشرف على أكثر من 100 رسالة علمية جامعية إلى مجرم يقضى فترة عقوبته، كان المرض ينهش في كبده المريض ويعادوه النزف من حين لأخر والكل يعلم مدى سوء السجون ورداءة الخدمة الصحية بها

أصابه نزيف حاد يستوجب نقله للمستشفى لكن قال زملاءه بالسجن وقالت عائلته أن نقله للمستشفى تأخر لستة ساعات كاملة كانت كافية لتنفد دماءه وتنتهى حياته ويختطفه الموت من حضن زوجته وأطفاله الأربعة

تخيل تلك اللحظات التي مر بها وهو يطلب النجدة والغوث وهو الطبيب الذي أنقذ حياة المئات أثناء ثورة يناير حين كان فاعلا في المستشفى الميدانى بميدان التحرير وتحكى فتاة فاضلة تم اعتقالها في نفس قسم الشرطة الذي أخذوه إليه بعد اعتقاله وتقول (وإحنا في الزنزانة دخلت علينا بنت دكتورة صيدلانية

واحد مضاها على شيك بـ 150 ألف من غير ما تاخد بالها

البنت لما دخلت الزنزانة قعدت يومين مستخبية فينا

ومستحملتش المناظر اللي معانا في الزنزانة والألفاظ والإهانات

وحاجات كتير أوي وإحنا قاعدين فجأة لقينا دم خارج من الحمام

زقينا الباب لقينا البنت انتحرت.. قطعت شرايين ايدها

وسط ذهول الجميع وصريخ وتخبيط على باب الزنزانة افتحوا البااااااااب

في واحدة بتموت

ولما أمين الشرطة فتح باب الزنزانة وشاف الدم قعد يجري ويقول دكتور هنروح في داهية

وشلنا البنت لبره

ولما لفوا مالقوش غيره رحمه الله الدكتور طارق الغندور

في زنزانة الرجال هو اللي لحق البنت وهو اللي خيط شراينها وأنقذها من الموت لغاية ما راحت للمستشفى )

الظلم قتل والإهمال قتل والصمت قتل والتبرير قتل.

رحل عالم من علماء مصر وبقى الطبالون والمنافقون والسفلة والفاقدون الإنسانية الذين سيسرعون الأن باتهامه أنه إرهابى ويستحق الموت، سينفى من تجب مساءلتهم أي تقصير واتهام وسيقولون هذا قدره، سننام ونصحو على مأساة جديدة لتتوارى المآسى السابقة.

ولكن الحقيقة التي لن نستطيع تجاهلها أن كل قطرة دم تسيل ظلما وعدوانا تُعمق جرح الوطن وتلعن ساكنيه من الصامتين والمبررين وتطارد جلاديه الذين خُيل لهم أن الله لا يرى ولا يعلم وأن أبواق الإفك ستستمر تغسل دماغ الناس وتجعلهم يرون المجرم ضحية
والبرىء مذنبا.

ارتاح طارق الغندور من بؤس الحياة ومن التدنى الإنسانى الذي ضرب هذه الأرض وصعدت روحه لرب كريم سيكون أرفق به منا، لكن لعنة دمه ودماء الأبرياء مثله ستظل تطارد الجميع في الدنيا والآخرة.
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء)

اللهم إليك الشكوى والمنتهى

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -