منذ فترة مبكرة، طرأ على أذهان من عايشوا الثورات العربية أن يقارنوا بين أنماط تلك الثورات، وتُستدعى هذه المقارنات كلما جد جديد على تلك الخبرات، وأتت الانتخابات التونسية، أخيراً، لتمثل مناسبة جديدة. ومنذ البداية، أشار بعضهم إلى اختلاف تلك الخبرات، وأن مصر لا يمكنها أن تكون تونس، كما أن تونس لا يمكنها أن تكون مصر. وكمبدأ أساسي، قد تتشابه الخبرات، أو تفترق، لكنها، في التحليل الأخير، تستند إلى قاعدة "أن الخبرات لا تستنسخ"، فلكل خبرة معطياتها، إلا أنه، في واقع الأمر، ليست المسيرة التونسية، حتى الوصول إلى انتخاباتها الرئاسية، هي المسيرة المصرية التي وصلت إلى انقلاب عسكري. وهنا، يجب أن نشير إلى ثورتين، افترقتا في المسار بين الاختيار بين صندوقي الانتخابات والانقلابات، بين صندوق الذخيرة وصناديق المسار الانتخابي. ويمكن رصد الثورتين، وتمايز مساريهما، من أمور أساسية عدة:
أولها، مقولة الشيخ راشد الغنوشي، مبكراً، حول طبيعة الاختلاف بين الثورتين، التونسية والمصرية، فقد أكد "أن التحديات مختلفة، وأنها، في الخبرة المصرية، أعقد وأشد، لسببين: الأول، مؤسسة الجيش وطبيعتها، والآخر، يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي و"كامب ديفيد" خصوصاً، ومجاورة مصر الكيان الصهيوني. المؤسسة العسكرية المصرية عبرت عن حالة من الفرادة والاستثناء في هذا المقام والرمزية، ما جعل تدخل الجيش في الحياة السياسية أمراً مشاهداً، خصوصاً بعد حركة يوليو في 1952، أضف إلى ذلك أن اتفاقية "كامب ديفيد" شكلت مساراً، يستدعي أبعاداً إقليمية ودولية، خصوصاً بما يتعلق بمصالح الكيان الصهيوني وأمنه.
الأمر الثاني الذي يتعلق بهاتين الثورتين يتعلق بالكادر السياسي، فالواضح أن الحركات الإسلامية، على الرغم مما حازته من شعبية، بعد الثورات العربية، ما زالت تفتقر إلى قدراتها في تكوين كوادرها، وهي، في هذا المقام، لا تحسن التمييز بين الكوادر السياسية والمهنية والدعوية، بل الأمر أبعد من ذلك، لا تجد فارقاً بين كوادر، أعدتهم للمعارضة، وتلك التي تصلح لإدارة الدولة وتسييرها. مسألة الحكم والعلاقة السياسية لا بد أن تتوافر لها الأدوات القادرة على الإدارة وتدبير معاش الناس، ومن ثم، يأتي قصور هذه الحركات في مصر لاعتيادها دور المعارضة، وافتقارها القدرة على إدارة الدولة والمجتمع.



الأمر الثالث يتعلق بأن الخبرة التونسية اتسمت بنوع من النشاط والفاعلية السياسية، يتسم بها المجتمع المدني والنقابي الذي يحمل من مؤشرات النضج والقوة، بينما المجتمع المدني في مصر هش وزائف، خصوصاً في ظل تأميم الدولة كل تلك الفاعليات، أو وضعها تحت مجهر الرقابة المباشرة، بل واختراقها أحياناً، فضلاً عن أن المجتمع المدني المصري لا يزال يتحرّى كل ما يتعلق بالخدمات للتابعين له، من دون أي حركة سياسية واعية، يمكن أن تسهم فيها تلك التكوينات، كجماعات مصالح، أو كجماعات ضاغطة، إضافة إلى أنه يظل تابعاً للسلطة في الداخل، أو منظمات التمويل في الخارج.

الأمر الرابع يتعلق بطبيعة التوجهات الليبرالية، وأصول التعامل مع القضايا التي تتعلق بالحريات وحقوق الإنسان. وعلى الرغم مما للتوجه الليبرالي في تونس من ارتباطات بالخبرة الغربية، إلا أنه يحمل تلك القيم الليبرالية، مدافعاً عنها، أما مدعو التيار الليبرالي في الخبرة المصرية فقد لعبوا دوراً في استدعاء واستعداء العسكر، ما جعلهم لا يستنكفون أن يأتوا إلى سدة السلطة والحكم على ظهور الدبابات، حتى وإن كان الثمن انخراط العسكر في عملية الحكم مباشرة أو بشكل غير مباشر، وهو أمر يحمل التناقض الرهيب بين القيم الليبرالية ومدنية الدولة، وتمرير الليبراليين المصريين عسكرة الدولة والمجتمع، على الرغم من مناقضته الأسس التي تتعلق بالقيم الليبرالية ومدنية الدولة، بل وانتهاك حقوق الإنسان.
الأمر الخامس يتعلق بقدرات التوجه الإسلامي في تونس على صياغة التوافقات، مع ما واجه ذلك من تحديات، وبغض النظر عما آلت إليه نتائج الانتخابات، إلا أن تجربة الترويكا كانت، في أساسها، إبداعاً تونسيّاً جعل التحديات في حدها الأدنى، بينما اتسمت الخبرة المصرية بحالة من الاستقطاب الشديد، وعملية استئصال رهيبة، مورست بعد انقلاب عسكري، قام على قاعدة من صناعة الكراهية واتهامات بالإرهاب، وهي أمور جعلت الاستقطاب في أعلى صوره، إذ مثّل الانقلاب حالة اسئصالية وقمعيةٍ، في محاولة لشرعنة باطله وسياساته.
الأمر السادس يتعلق بتلك الحالة الانتخابية التي شهدت غياباً للشباب، وإقبالاً من كبار السن، وهو أمر، فإذا كان الشباب يعد شرارة الثورة في الخبرتين قد بدأ في التراجع عن ممارسة أدواره في العملية السياسية، من جراء بروز الثورات المضادة التي تحاول أن تجهض الثورة الحقيقية، وقدرات الشباب فيها والالتفاف على هذه الفعاليات الشبابية، في إطار زراعة الخوف والتخويف، فضلاً عن حالة الإحباط التي طالت الشباب، حينما أُعيقت آمالهم، وبددت جهودهم، إذ لم تحقق هذه الخبرات الثورية ما حمله الشباب من أشواق، فصارت الفجوة، بين الواقع وآمالهم، كبيرة ومتسعة.
غاية الأمر في الخبرتين أن الثورة التونسية احتكمت، في النهاية، إلى صناديق انتخابية، وأن الخبرة المصرية استدعت حالة انقلابية، ونظن أن الدرس الكبير، في هذا الشأن، يتطلب من كل القوى الثورية ألا تتعامل مع الثورات باعتبارها أشواقاً إلى الحرية والعدالة فحسب، ولكن باعتبارها ملحمة كبرى، تجعل من الثورة في حالة استمرارية، حتى تصل إلى مبتغاها وتحقق أهدافها، كما على هؤلاء أن يشكلوا الكوادر لإدارة وتسيير الدولة والالتحام مع قضايا المجتمع، الثورة يتصدر مشهدها الشباب، بما يمثلونه كأصحاب مصلحة كبرى، فيما تنشده الثورات من تغيير لصناعة التغيير والأمل والمستقبل.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -