دون كثير جدل، تنزع المصداقية الأخلاقية عن الحكومات وتسقط ادعاءاتها بشأن حقوق الإنسان والحريات حين تتورط مؤسسات وأجهزة رسمية فى جرائم التعذيب والإخفاء القسرى وسلب الحرية والاعتقال غير المستند إلى إجراءات قانونية عادلة ومنضبطة وغيرها من الانتهاكات.
وليست حكومة الولايات المتحدة الأمريكية بمستثناة من هذه القاعدة، وهى تنطبق عليها منذ تواكبت الانتهاكات الواسعة مع الحروب الأمريكية فى النصف الثانى من القرن العشرين (تذكروا فظائع الحرب فى فيتنام، والقنابل المحرمة دوليا، ووجوه الأطفال الفيتناميين الفارين من جحيم الغارات الأمريكية التى التقطتها عدسات بعض المصورين وتناقلتها الصحافة الغربية قبل غيرها). وينطبق أيضا نزع المصداقية الأخلاقية وسقوط إدعاءات الحقوق والحريات على تورط الحكومة الأمريكية فى انتهاكات «الحرب على الإرهاب» فى أعقاب 11 سبتمبر 2001 وجرائم التعذيب والإخفاء القسرى والاعتقال فى أفغانستان وباكستان والعراق ومعتقل جوانتنامو وجرائم أجهزة الاستخبارات الأمريكية ومعاونيها من أجهزة استخبارات بلدان غربية وعربية وشرق أوسطية فى ساحات كثيرة أخرى.
وليس تقرير مجلس الشيوخ الأمريكى الأخير بشأن جرائم وانتهاكات الاستخبارات الأمريكية، وعلى الرغم من التداول العالمى واسع النطاق لملخصه وبعض أجزائه التى سمح بنشرها، بالتوثيق الرسمى الأول للأمر. فقد سبقه إعداد تقارير مختلفة من قبل الكونجرس (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) ومن جانب مؤسسات وأجهزة تنفيذية كان من بينها الرئاسة الأمريكية بعد أن بدأت إدارة أوباما فترتها الأولى 2008 ــ 2012 بإيقاف الممارسات الاستخباراتية والأمنية التى رتبت الانتهاكات وإن لم تلغ بعض الأوامر التنفيذية (يصدرها رئيس الجمهورية) التى أضفت عليها شرعية إجرائية، وتداول الرأى العام الأمريكى والعالمى شيئا من تفاصيل تلك التقارير (تارة بتوظيف أجزائها المعلنة وتارة عبر جهود الصحافة الاستقصائية). والمؤكد أيضا أن الإعلام الأمريكى، ومنذ كشف جرائم التعذيب فى قاعدة باجرام العسكرية فى أفغانستان وسجن أبو غريب فى العراق أعوام 2003 و2004 و2005، سبق غيره فى توثيق بعض جرائم وانتهاكات الاستخبارات الأمريكية وصنع منها قضايا رأى عام.
دون كثير جدل أيضا، يدلل تقرير مجلس الشيوخ الأمريكى الأخير على رسوخ الالتزام الرسمى فى الولايات المتحدة بممارسة النقد الذاتى، وتمكين المؤسسات التشريعية والقضائية من توثيق انحرافات وتجاوزات السلطة التنفيذية لمبادئ سيادة القانون عبر تحقيقات جادة وطويلة المدى، وإرساء قواعد «تعديل المسار» وشىء من المساءلة والمحاسبة حين تتغول السلطة التنفيذية وتعصف بضمانات الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية. ومع وجوب الاعتراف بالأفضلية المجتمعية والسياسية والإجرائية لمثل هذه التقاليد الديمقراطية، إلا أنها لا تعيد سوى القليل القليل من المصداقية الأخلاقية للحكومة الأمريكية بعد أن أودت بها الجرائم والانتهاكات وثبتت إدراك الرأى العام العالمى لمعايير الولايات المتحدة المزدوجة بشأن حقوق الإنسان ولحضور النفاق بمضامين عديدة فى خطابها عن الحريات والديمقراطية.
دون كثير جدل أخيرا، لا يعنى تقرير انهيار الكثير من عناصر المصداقية الأخلاقية للولايات المتحدة بفعل الجرائم والانتهاكات والتعذيب أن التشفى فى «النفاق الأمريكى» الذى تمارسه الحكومات الشمولية والسلطوية التى انتهكت وتنتهك الحقوق والحريات ودون تحقيقات عادلة أو نقد ذاتى جاد، ومن بينها حكومتنا وحكومات عالمنا العربى، ذلك التشفى الذى تروج له الأبواق الإعلامية المرتبطة بالحكومات والمصالح الكبرى، له ولو النزر اليسير من المصداقية أو له أن يثير غير الرفض والاستهجان.
0 التعليقات:
Post a Comment