الجرس جاءنا من سيوة، وهى إحدى الواحات النائية التى لا تقرأ أخبارها إلا فى صفحات الحوادث، إلا أن خبرها هذه المرة نشر على الصفحات الأولى لأنه كان متعلقا بوباء وليس بحادثة عادية، ذلك أن «الحصبة» انتشرت بين أطفال الواحة، مما أدى إلى وفاة ثمانية منهم، فى حين أن الإصابة ضربت 136 شخصا يعالج الآن 38 منهم، فى حين أن الباقين خرجوا حتى إشعار آخر.
أخبار الحصبة تناقلتها صحف الصباح أمس (الأحد 7/12)، وكما هى العادة، فقد تم استنفار المسئولين فى محافظة مرسى مطروح ووزارة الصحة، فأعلنت الطوارئ فى المحافظة وسارعت وزارة الصحة إلى تزويد مستشفى سيوة والوحدات الصحية بها بعدة مئات من الجرعات اللازمة لمكافحة المرض، وأوفدت أعدادا من الأطباء والممرضات. واهتم المسئولون على مختلف المستويات باحتواء الوباء والحيلولة دون انتقاله إلى مناطق أخرى. خصوصا أن ثمة أجراسا أخرى أشارت إلى ظهور حالات انفلونزا الخنازير فى بعض محافظات الصعيد إضافة إلى محافظتين فى منطقة الدلتا. وبدورها استدعت جهودا أخرى للاحتواء والحصار.
سألت من أعرف من شيوخ الطب عن تفسير لمثل هذه المفاجآت التى تداهمنا بين الحين والآخر، فقالوا انها عوامل عدة تساعد على ظهورها، منها قلة الوعى بالاحتياطات الصحية التى تعد التطعيمات فى مقدمتها، ومنها الفقر المؤدى إلى سوء التغذية ومن ثم ضعف المناعة (مساعد وزير الصحة ذكر أن أغلب الأطفال الذين ماتوا بسبب الحصبة ثبت أنهم يعانون من سوء التغذية). من تلك الأسباب أيضا ضعف الرعاية الصحية وارتفاع تكاليف العلاج الخاص، الأمر الذى يدفع كثيرين إلى عدم الذهاب إلى الأطباء إلا بعد أن يتمكن منهم المرض بحيث يستعصى علاجه، أضافوا إلى الأسباب أيضا دور العوامل البيئية، التى تساعد على انتشار الأمراض، ومنها تلوث الأجواء وعدم نقاء مياه الشرب التى تختلط أحيانا بمياه الترع والمصارف.
النقطة الأهم التى أثارها أولئك النفر من شيوخ الأطباء تمثلت فى انتقادهم للخريطة الصحية للمصريين، التى لا يزال يكتنفها الالتباس والغموض. وهى نقطة شرحها الدكتور أحمد شقير مدير مركز أمراض الكلى والمسالك البولية التابع لجامعة المنصورة على النحو التالى: رغم التقدم الطبى الحاصل فى مصر إلا أن هناك ثغرة كبرى تعترض المسيرة تتمثل فى عدم وجود قاعدة بيانات ترسم خريطة الأوضاع الصحية للمصريين، وتسمح للباحثين وحتى المسئولين بالتعرف على أمراضهم، نوعياتها وأماكن انتشارها، وفى غياب هذه الخريطة فإن وزارة الصحة ومعها الأطباء بل والدولة ذاتها هؤلاء جميعا يخوضون حربا على جبهة عريضة لا يعرفون لها أولا من آخر. صحيح أنه بات شائعا بين الأطباء أن المجتمع المصرى يعانى من أمراض معينة مثل الأورام السرطانية والفشل الكلوى وأمراض الكلى والمسالك البولية والتهاب الكبد الوبائى (فيروس سى) إضافة إلى الرمد، لكن هذه الأمراض يتعذر ترتيب أولوياتها. فلا نحن نعرف بالضبط ما هو المرض الأكثر انتشارا بين المصريين، أو بين طبقاتهم المختلفة، كما أننا لا نعرف الأماكن التى ينتشر فيها المرض أكثر من غيرها. صحيح أن أطباء كل تخصص ربما كانوا على علم بتلك التفاصيل من واقع خبراتهم، إلا أن ذلك ليس حاصلا على المستوى الطبى العام.
فى رأى الدكتور شقير أن هذه العملية الضرورية والبسيطة مما ينبغى أن تنهض به وزارة الصحة، لأنه لا يمكن أن توضع سياسة صحية أو خطة للدفاع عن صحة المصريين، دون أن تتعرف الوزارة المسئولة على ماهية الأمراض الأكثر شيوعا بين المصريين حتى تكافحها وتحشد طاقاتها لمواجهتها حسب أولوياتها ومدى ما تمثله من خطورة.
لقد كانت البلهارسيا يوما ما خطرا يهدد حياة قطاع عريض من المصريين، وحين استشعرت الجهات المعنية ذلك فإنها عبأت قدراتها لمواجهة ذلك المرض اللعين، حتى قضت عليه خلال عقدين أو ثلاثة. ولكن بعد اختفاء البلهارسيا ظهرت مجموعة أخرى من الأمراض الخطرة التى تتطلب احتشادا ومواجهة جادة، وتلك مهمة لا تتأتى إلا فى ظل توافر قاعدة للبيانات تحدد حجم الخطر الذى يمثله كل مرض حتى يمكن إعداد العدة للتصدى له.
إذا سألتنى لماذا لا تتوافر فى مصر مثل تلك البيانات، فردى أن ثمة أسبابا عدة أدت إلى ذلك منها الإهمال والتركيز على الأمن السياسى دون الأمن الاجتماعى. لكننى أزعم أن السبب الأهم أن المسألة تهم قطاعات فى المجتمع تضم شرائح الفقراء ومتوسطى الحال، الذين لا يسمع لهم صوت ولا تنشر لهم صور، فلاهم من وجهاء القوم وأثريائهم ولاهم من الفئات الخاصة التى تغدق عليهم الصناديق الخاصة، ثم إنهم ليسوا من المستثمرين أو السياح، مشكلتهم أنهم أولاد البلد وأصحابها، لكنهم ليسوا أصحاب القرار فيها. ولذلك صار حظهم كما رأيت. ليس فى العلاج والصحة فحسب، ولكن فى التعليم والإسكان أيضا.
0 التعليقات:
Post a Comment