لا أعرف من أين أبدأ، هل من اليوم الذي قررت فيه أن أكون صحفيًا، أم من اليوم الذي نويت فيه المشاركة في ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولكني سأختصر الموضوع حاكيًا ساعات من الإهانة، والتنكيل التي تعرضت لها انا وأصدقائي، عقب القبض علينا من أحد المقاهي الكائنة بشارع صبري أبو علم إثر فض التظاهرات الرافضة لحكم البراءة لمبارك ورجاله مساء يوم التاسع والعشرين من نوفمبر، ولكني سأحذف الألفاظ البذيئة والشتائم التي لم نتوقف عن سماعها طوال الوقت.
كنا جالسين أنا وأصدقائي علي المقهى، كانوا يشاهدون مباراة الزمالك بينما أحاول أنا شحن هاتفي المحمول حتى أعود لميدان عبدالمنعم رياض لالتقاط الصور، والمتابعة من هناك، وإذ فجأةً وجدنا فوضى عارمة في الشوارع المحيطة وأصوات المدرعات في كل مكان وقوات الأمن تطارد مئات الشباب دون تمييز في شوارع وسط المدينة.
قررنا البقاء في القهوة حتى لا يلقي الأمن القبض علينا، فأصدقائي لم يكن لهم صلة بالتظاهرات، وإن كنا جميعًا غاضبين من الحكم بالبراءة علي مبارك، والذي اعتبرناه شهادة وفاة للثورة التي شاركنا فيها وحلمنا بها، التفتّ إلى أصدقائي، وتبادلنا الحديث مطمئنين بعضنا بعضً أن أحدًا منّا لن يلقى القبض عليه بسبب بعدنا الشديد عن مكان الحدث.
دخل ضباط القوات الخاصة القهوة فجأة وبدأوا في تفحص وجوهنا ليروا العرق أو آثار الغازات المسيلة، ولكنهم لم يجدوا أيًا من تلك الآثار، إلا أن ضابط-اتضح أنه برتبة كبيرة- التقط صديقي مينا ودفعه نحو الضباط المحيطين به قائلًا "خدوه"، فخيّل لي ان هذه الرتبة قد تسمع ما أقول ولكن كل دفاعي كان هباءً لأجده يمسك بي من "الجاكيت" ويأخذني أنا الآخر، ثم حاولت الاستدارة لأرى ماذا حل بباقية أصدقائي فوجدته يقول "وأبو شنطة كمان".
سرت في الشارع مع مجند الأمن المركزي والذي لم يتوقف ثانية واحدة عن ضربي وإهانتي فدار بيننا الحوار الآتي:
-امشي يابن ال....... (صفعة علي وجهي(
-انا ماشي معاك يا عم متضربش
-متزعقش ياض (ركلة )
-مبزعقش يا عم
-متتكلمش خالص (صفعة)
(لم أتكلم)
-انت بتشتمني في سرك! (ركلة أخرى)
قذفوا بنا داخل المدرعة فوجدنا الكثير من الشباب والذين قد تم القبض عليهم من المقاهي المحيطة، ولم يتوقف الضرب والركل لحظة واحدة طوال الدقائق التي مرت علينا كأنها ساعات، قررت إخراج بطاقتي الصحفية كمحاولة لإيجاد من يتفاهم ولكن فور قولي بأني صحافيًا، وجدت بيادة تركلني في وجهي فقررت الصمت وتأجيل مهمة التفاهم حتي أجد ضابط يتسم عليه العقلانية.
وقفت المدرعة في أحد الشوارع المتفرعة من ميدان عبدالمنعم رياض، وبدأوا في إنزالنا اثنين اثنين، وسط حشود الأمن المركزي التي كانت تتسابق علي التنكيل بنا وإهانتنا، وعندما أوقفونا طابور قررت التحدث إلى ضابط كان من الواضح أنه كبير السن والرتبة، فقلت له:
يا فندم أنا صحفي وهذا هو الكار......
لم يتسنى لي إكمال حديثي لأجد صفعة علي وجهي أسقطت نظارتي، قائلًا : وانا ضابط.
وما هي إلا دقائق حتى بدأت الحفلة، فبدأ العساكر والضباط يتناوبون علي ضربي وركلي، حتى سألني أحدهم باستهزاء: لماذا تتوجع!، فاستجمعت قواي لأرد عليه قائلًا: لإنك تضربني، فوجدت ركلة أخرى في ظهري ليقول صاحبها: مثلما فعلت أنا الآن ؟!، فقررت الصمت حتى ينتهوا من حفلتهم والتي لم أعرف لها مدة.
وما إن انتهت الحفلة، وجدت أحد الضباط يأخذني تحت إبطه، وآخر يمسكني من "الحزام" ليشدوني نحو العربة "البوكس"، حتى يقوم العساكر الذين كانوا يمسكون العصى بالضرب علي ظهري وركلي، وما ان ركبت العربة حتى بدأت في الاستيعاب ومعرفة خطأي الوحيد وهو إني تفوهت قائلًا إني صحافي.
تحركت العربة وبدأت المعاملة تتحسن قليلًا وعلمنا اننا سيتم ترحيلنا لقسم عابدين، وصلنا القسم وكانت المعاملة أفضل بكثير من تلك التي تلقيناها أثناء القبض علينا، بدأ ضباط القسم في تفريغ الغرف لاستيعاب الأعداد الكبيرة التي تم القبض عليها، حتى أدخلونا غرفة لم تسعنا ولكنهم كانوا يصيحون فينا قائلين :”قرفص يلا".
وقام الضابط بإخراج صديقي مينا ليقف في الخارج دون ابداء أي سبب، ولكن مينا لم يسكت، فبدأ يصيح قائلًا :صديقي ممسوك عشاني ودا حرام، لم أجد طريقة للتواصل معه ولكن ما إن عدت الساعة الأولى حتي وجدتهم يستدعونني.
أدخلوني غرفة ظننت أنه سيتم التحقيق معي، فسألني الضابط: انت شغال فين؟، فقلت له أني صحفي في موقع "مصر العربية"، فسألني ثانيةً : وهل تم التنسيق مع أي من الأجهزة الأمنية؟، فرديت قائلًا: "يا فندم انا أساسًا ممسوك من علي القهوة والظابط عارف دا بس هو مصمم يكدرني انا واصحابي الاثنين"، فقال لي أن أعود للحجز.
عدت للحجز لأجد المكان بدأ في الارتباك والتغيّر لأجد أحد أمناء الشرطة يقول إن مدير الأمن قد وصل للقسم، وفجأة دخل ضابط علينا وحذرنا : “اللي هيولع سجارة هأكلهاله"، لم تكن الغرفة تستوعبنا من الاساس، فلم يفكر أحد اصلًا في التدخين.
وبعد مرور حوالي ساعة أخرى سمعت اسمي فخرجت لهم، فقال لي أحد الضباط: انت بتاع "مصر العربية" ؟، فقلت له نعم، فقال لي أني سأخرج، حاولت أن اقنعه اني لن استطيع الخروج وترك أصدقائي الذين تم القبض عليهم معي، فتدخل مينا صائحًا فيّ لأخرج، فنظر لنا الضابط وقال لي اني سأخرج وان مينا ورامي والباقية سيتم إطلاق سراحهم قبل الفجر، واني باستطاعتي انتظارهم في الخارج.
خرجت من القسم وكان ذهني مشوشًا، فأصدقائي مازالوا في الداخل، وبدأت في تذكر الإهانات التي تعرضت لها، وكيف ان سبب بلائي الأساسي هو قولي إني صحافيًا، وحتى إن لم أكن فنحن تم القبض علينا من المقهى!، وحتى الذين شاركوا في التظاهرات فما الذي يستدعي تلك المعاملة المهينة والتنكيل!.
جلست علي الرصيف بين أهالي المقبوض عليهم والذين كنت أحوال طمأنتهم ولكني فشلت، فكيف تطمئن أحد علي ابنه الواقع تحت رحمة القرارات السياسية والظلم المبين وتلك الأيادي التي لا ترحم ولا تشفق!.
خرج غالبية المحتجزون بعد ساعات، امضينا الكثير من الوقت في تذكر ما حدث لنا، وترتيب الأحداث خصوصًا أن فجاعة ما تعرضنا له جعلت ذاكرتنا مشوشة، ولكن الدفء الذي ساد المكان بسبب لقاء الأهل والأصدقاء جعل من هذه التجربة القاسية سببًا للضحك والتعليقات الساخرة على تصرفاتنا أثناء الضرب والاعتداء علينا.
مصر العربية

0 التعليقات:
Post a Comment