في كل مرة، كان لعموم المصريين مطالب وحاجات، إلا أن المنقلب الرئيس أصر، المرة تلو المرة، على لازمة صارت الأساس في رد كل مطالبات "مفيش"، ويُذيل ذلك بـ"مش قادر أديك (أعطيك)"، بل إنه أعلن، مرة، أن حكومته التي شكلها لن تستجيب لأي مطالب فئوية، مهما كانت. وفي الوقت نفسه، سنرى أن خطابه حول مؤسسات الدولة، الخدمية منها خصوصاً، والنهوض بها، سواء تعلق الأمر بصحة الإنسان أو تعليمه، أو الخدمات الأخرى، فإن الأمر يسير في طريق انسحاب الدولة من أداء ما كانت تلتزم به في هذا المقام، مبرراً تقاعسه باحتياجه إلى المليارات. وذلك كان في دولة "مفيشستان" التي كتبنا عنها، بل لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فكانت دولة الجباية، ودولة تقوم على الأخذ من عموم الناس، سواء تعلق الأمر بضرائب، أو بفتح حسابات للتبرع هنا وهناك، تطلب منهم الدفع "هتدفع يعني هتدفع"، ضمن سياسة ثابتة، شعارها "أنا عاوز منك".
بين هذا وذاك، تعطلت مصالح الخلق، وصارت المطالب صرخات في الهواء، لا يُستجاب لها، وزايدت مؤسسات الدولة على المواطنين، أنها تطلب منهم لا تعطيهم، وترافق مع ذلك غلاء في الأسعار وزيادات في أثمان الخدمات، في إطار مبالغات، وتطالب هؤلاء أن يؤدوا تلك الزيادات، إذ يمنون عليهم طول الفترة التي تركوهم يتنعمون بتلك الخدمات خارج إطار الأسعار العالمية، وكانت النغمة عند الحديث عن "رفع تذاكر المترو" أنه "لا يوجد تذكرة مترو في العالم بجنيه واحد"، وأن التذكرة في تكلفتها الحقيقية، يشير الوزير، إلى أنها تدور ما بين 20 و23 جنيها، فيزايد عليه مستشاره، ويقول إن التكلفة الحقيقية تصل إلى 43 جنيها. والعجيب أن هذه لم تكن المرة الأولى التي تطالب فيها المؤسسات الخدمية تلك برفع تذكرة المترو، حتى ورد على لسان المنقلب الرئيس نفسه، من قبل، أن هذه التذكرة تكلف الدولة تسعة جنيهات. أترى معي مزايدات هؤلاء في مؤامرة غريبة على فقراء الناس وضعفائهم، هؤلاء لا يمكنهم أن يشعروا بأوجاع الناس وآلامهم التي يكابدونها في سبيل تدبير معاشهم، صار هؤلاء جميعاً موضع مزايدة ممن هم فى السلطة، حتى صار العبء الأكبر على المواطن العادي الذي لا يستطيع له دفعاً، ولا يمكنه مع التضييق عليه أن يلتمس لنفسه نفعا.
أريت كيف هي بئر مصالح الناس المعطلة "بئر معطلة.."؟ الخدمات تتدهور وتنحدر، والأسعار تلتهب وترتفع، في مؤامرة وضيعة على حياة الانسان العادي الذي هو موضع عجب هيئات اقتصادية، تتساءل كيف يدبر هذا المواطن المصري حاله، في ظل ميزانية متآكلة،
ومطالب متزايدة وأسعار مرتفعة؟ وهو كذلك لا يستطيع بأي حال أن يطالب بحقوقه، حتى وإن اتسمت بالعدل، فهؤلاء الذين يطالبونه بالانتظار والصبر كثيرون، دائماً يقولون له "مفيش .. مش قادر أديك"، بينما يمارسون، من جهة أخرى، "فيه وأنا قادر أديك". انظر معي إلى فئات تم تعديل مرتباتها ورفع مكافآتها وتزويد معاشاتها، مثل الجيش والشرطة والقضاء، يمكنك، أيضاً، أن تنظر إلى هؤلاء الذين ينهبون الأموال في صورة مرتبات مبالغ فيها عند "أهل الإفك الإعلامي"، إذ تقدر بالملايين، وهو أمر يجعل المواطن العادي في حال بائس، لا يستطيع له دفعاً، يقع في قلب الحرج الشديد، وبعضهم صار على مشارف الهلاك الأكيد.
ومن مؤشرات ضيق المعاش، والتي تحولت في عهد الانقلاب إلى معيشة ضنكا، في إطار ممارسات لا تلقي بالاً للضعفاء أو الفقراء، ولا النهوض بخدماتهم، ولكن، فقط، يبيعون لهم الأوهام وفائض الكلام ومزيداً من الأحلام، ولا يقيمون وزناً لسعي هذا المواطن الذي لا يريد إلا أن يتحسس ويتحسن معاشه. مطالبه ليست أمراً كثيراً، لكنها على هؤلاء الذين يشيدون القصور ويمارسون الفجور أمر عسير، فإنهم من مصاصي دماء الفقراء، ومن هؤلاء الذين تُمتَك عظامهم، بتعبير ابن خلدون، حتى لا يتركون لهم شيئاً، والشاهد على ذلك يأتي من حالات الانتحار التي زادت، وامتدت معظمها مع ضيق الحال وسوء المآل، ويأس يحيط بالناس من وضع طاله فساد واختلال كثيران. وتدل حالات الانتحار التي نراها، في الأيام الأخيرة، على هذا الوضع الخانق البائس اليائس الذي لا يستطيع هؤلاء له دفعاً، أو يملكون منه خروجاً، إذ يحاصرهم هذا الضيق من كل مكان، هذا هو حال البئر المعطلة والقصر المشيد.
أرأيت لو أن المفارقة بين بئر وقصر، لكان ذلك من الأمور الخطيرة. ولكن، حينما تتطور المعادلة إلى بئر معطلة وسجن مشيد، يصير الظلم مركبا متراكما مستفزاً، حينما يفتتح وزير داخلية الانقلاب سجناً فيقص الشريط، مزهواً مبتسماً، وكأنه يفتتح شيئاً لمعاش الناس وإنجاز مصالحهم، وما أدراك ما سجون الاستبداد، فيها ظلم كبير، وتعذيب كثير، وعمل فاجر خطير، ينال من كرامة الناس وحياتهم ونفوسهم وعزتهم، مستهينين بكل حق للإنسان، يلفقون للناس التهم، ويقيمون محاكمات جائرة وهزلية، فيكون السجن، في النهاية، مآل هؤلاء، وحينما يزيد المساجين، يزيد الطلب، فتُشيّد مزيد من السجون، هذه هي "الخدمات؟!" والإنجازات التي يقدمها النظام المستبد الفاجر الذي يُشَيّد هذه السجون، لتكفي امتداد ظلمهم ومزيد جورهم، إنهم فقط لا يضعون المعادلة في بئر معطلة وقصر مشيد، لكنهم، أبعد من ذلك، يقومون "بسجن مشيد"، لا يفتأ هؤلاء المستبدون أن يبنوا المزيد؟
أرأيت إن كان هذا هو الأمر في تلك المفارقة الظالمة الجائرة في "بئر معطلة وسجن مشيد"، ثم يأتي خبر، في اليوم نفسه، عن أن الدولة ستوفر، أيضاً، قبوراً، وكأن هؤلاء لا يعرفون إلا لغة الاعتقال والسجون، أو لغة الموت والقبور.
0 التعليقات:
Post a Comment