هى أوهام أحاطت بالفكرة الديمقراطية فى مصر منذ خمسينيات القرن العشرين وضربت عليها صنوفا من الحصار المعرفى والقيمى والفكرى والسياسى على نحو حال دون تجذرها المجتمعى، ومكن ــ بين عوامل أخرى ــ السلطوية الحاكمة من البقاء طويلا ومن احتواء لحظات الطلب الشعبى على الديمقراطية ــ وهو دوما ما كان طلب وحراك بعض القطاعات الشعبية المؤثرة، وليس صياح الأغلبيات الساحقة ــ معرفا بالعدل وسيادة القانون وتداول السلطة والسلم الأهلى وضمانات الحقوق والحريات الشخصية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وما لبثت الأوهام هذه تحكم حصارها حول الفكرة الديمقراطية فى واقعنا الراهن، وتفتح أبواب مصر مشرعة أمام التجديد المستمر لدماء السلطوية الحاكمة وسعيها الدائم لإخضاع المواطن والمجتمع والدولة لإرادتها الانفرادية.

أما الوهم الأول فيرتبط بترويج منظومات الحكم / السلطة التى سيطرت على مصر منذ 1952 ومعها بعض نخب اليسار التقليدى بفرعيه الماركسى والناصرى (ومضاده اليسار الديمقراطى الذى تبلور فكريا وتنظيميا خلال العقود الماضية) لكون بناء الديمقراطية يمر أولا عبر تحقيق معدلات تنمية اقتصادية واجتماعية تتغلب على أزمات التخلف والفقر والأمية والبطالة والفجوات الواسعة فى معدلات دخول الأفراد وتحسن من ظروف الناس المعيشية ومن مستويات الخدمات التعليمية والصحية وخدمات الرعاية المتاحة لهم، ثم يعقب الجهود والخطط التنموية التى ليس لها من دون «الدولة ومشروعاتها العملاقة» من فاعلين قادرين على الاضطلاع بها ويتبعها لاحقا التأسيس لسيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات وغير ذلك من أشكال «رفاهية الأغنياء وميسورى الحال» التى لا تعنى فى شىء جموع الفقراء والأميين والعاطلين عن العمل ــ طبعا وفقا لإرادة منظومات الحكم / السلطة ومقولات نخب اليسار التقليدى المشار إليها هنا.

وبعيدا عن أن الكثير من دراسات العلوم السياسية والأبحاث الاقتصادية تجرد الرؤية «التعاقبية» ــ البدايات التنموية المتبوعة بتحول ديمقراطى ــ من الحجية نظرا للعدد المحدود من المجتمعات والدول التى اقتربت من التماهى معها منذ خمسينيات القرن العشرين وللخصوصية البالغة المرتبطة بها ــ كوريا الجنوبية كمثال ــ وتصنفها من ثم باعتبارها وهما ذا جاذبية للسلطويات الحاكمة، يتجاهل «التعاقب» ثلاثة حقائق هى: أن 1) تطور المجتمعات والدول يندر أن يأتى فى خطوط مستقيمة لا تتداخل أو فى مراحل زمنية قاطعة يمكن بصددها إعمال القواعد الهندسية والحسابات المعملية لتعريف البدايات والنهايات المنظمة وتحديد النقلات المتوقعة من خطط تنموية إلى تحول ديمقراطى، وأن 2) اعتياد منظومات الحكم / السلطة والنخب المتحالفة معها على إخضاع المواطن والمجتمع والدولة والامتناع عن التأسيس لسيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات يزج بها إلى الربط العضوى بين وجودها وبقاء إرادتها الانفرادية وحماية مصالحها وبين غياب الديمقراطية ويرتب من ثم دفاعها المستميت عن السلطوية ومحاربتها الشرسة للحظات الطلب الشعبى على الديمقراطية ــ حتى حين تنجح الخطط التنموية فى التغلب على أزمات التخلف والفقر والأمية والبطالة وتتحسن ظروف الناس المعيشية، وهو ما لم يحدث فى مصر على نحو مستدام منذ خمسينيات القرن العشرين، وأن 3) تواصل غياب الديمقراطية ينزع عن مؤسسات وأجهزة الدولة، وعن غيرها من المؤسسات العامة، وعن المؤسسات الخاصة، بل عن بعض تنظيمات المجتمع الوسيطة فى المساحات الأهلية والمدنية القدرة على إدارة شئونها ومن ثم شئون المواطن بمعزل عن السلطوية الحاكمة التى تصبح بذلك الإطار المرجعى الوحيد للمجتمع وللدولة ويصبح التعاطى معها الخبرة الوحيدة جاهزة الاستدعاء فرديا وجماعيا.

•••

ولا يختلف جذريا عن وهم «التعاقب» وهم آخر تشترك فى الترويج له مصريا منذ خمسينيات القرن العشرين منظومات الحكم / السلطة، والنخب الاقتصادية والمالية والإدارية (والأخيرة تعود على بيروقراطية مؤسسات وأجهزة الدولة وعلى قطاعات موظفى العموم ذوى التأثير) المتحالفة معها، وبعض نخب اليسار التقليدى، وعديد النخب المنتسبة لفظيا للمبادئ الليبرالية والمدعية زيفا الالتزام بالفكرة الديمقراطية، والنخب الفكرية والثقافية والأكاديمية والإعلامية التى لا تعرف إلا البحث عن الاستتباع من قبل الحكم / السلطة كملاذ للحماية من القمع وللحصول على بعض الامتيازات؛ وهم «لا صوت يعلو اليوم على..»، وما يتأسس عليه من تبرير تأجيل بناء الديمقراطية وارتهان سيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات لأهداف تصاغ كشعارات كبرى وتربط منظومات الحكم / السلطة بينها وبين «المصلحة الوطنية» و»الصالح العام» على نحو أحادى لا يحتمل الإضافة أو التعديل، وتسير على درب الحكام نخب التابعين.

•••

منذ منتصف القرن العشرين وإلى اليوم، ومقولات «لا صوت يعلو» تتعاقب لتتجه بقية مفرداتها لتحديد الاستقلال الوطنى أو التنمية وتأهيل الناس للممارسة الديمقراطية أو الاشتراكية أو تحرير فلسطين أو مواجهة الصهيونية والإمبريالية أو معركة تحرير التراب الوطنى أو الرخاء الاقتصادى أو الاستقرار أو الحفاظ على الدولة الوطنية أو الحرب على الإرهاب كصنو «المصلحة الوطنية» وأهداف «المرحلة» غير القابلة للإضافة أو التعديل، ولإقصاء كل ما يتعلق بأهداف أو قيم أو مبادئ أخرى. منذ منتصف القرن العشرين وإلى اليوم، ومقولات «لا صوت يعلو» توظف لتبرير تأجيل الديمقراطية، وللتعميم الزائف للنظرة السلبية لسيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات ــ فى الحد الأقصى كمعوقات وقتية تحول بين مصر وبين حماية «مصلحتها الوطنية» وكذلك بينها وبين تحقيق أهداف «المرحلة» ومن ثم ينبغى تجاهلها، وفى الحد الأدنى كترف «لا تحتمله الأخطار والتهديدات والتحديات التى يتعرض لها الوطن» يتعين تأجيله وإسكات الأصوات والمجموعات التى تطالب به، وعند الحدين تستبعد وعلى نحو شمولى الروابط الإيجابية بين سيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات وبين إنجاز المجتمعات والدول لاستقلالها الوطنى وللتنمية وللتقدم وللرخاء وللسلم الأهلى وذلك على الرغم مما لهذه الروابط من دلائل ذات حجية ومصداقية تأتى بها تواريخ الكثير من الشعوب البعيدة عنا وبعضها القريب منا.

ثم تستند منظومات الحكم / السلطة والنخب المتحالفة معها إلى وهم «التعاقب» والوهم التأجيلى الذى تتضمنه مقولات «لا صوت يعلو» للترويج لوهم ثالث يحكم الحصار حول الفكرة الديمقراطية فى الواقع المصرى، ويمكن للسلطوية الحاكمة بفاعلية، ويضمن بقاءها؛ وهم الضرورة الوطنية. قبل صيف 2013 وبعده، وكتاباتى دائمة التحذير من المحتوى السلطوى لمقولات فعل الضرورة متجسدا فى تدخل المؤسسة العسكرية فى السياسة فى 3 يوليو 2013، ومرشح الضرورة فى الانتخابات الرئاسية الذى جسده وزير الدفاع السابق المشير عبدالفتاح السيسى، ورئيس الضرورة الذى صار إليه بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية. والحقيقة أن المحتوى السلطوى لمقولات الضرورة هذه ينبع من كونها فى حدها الأدنى تبرر للخروج على الديمقراطية بادعاء انتفاء البديل لتدخل المؤسسة العسكرية فى السياسة بينما البديل المتمثل فى الانتخابات الرئاسية المبكرة كان حاضرا، ومن كونها فى حدها الأقصى تنزع عملا عن المواطنات والمواطنين الحق فى الاختيار الحر فى الانتخابات بإضفاء شرعية الضرورة الوطنية على المرشح الرئاسى لمنظومة الحكم / السلطة (أو على قوائمها ومرشحيها فى الانتخابات البرلمانية القادمة)، ومن كونها فى حدها الأقصى أيضا تحول عملا بين الناس وبين التعبير الحر عن الرأى فيما وراء توجهات وأفعال رأس السلطة التنفيذية التى يروج لها كالتعبير الأوحد عن الضرورة الوطنية وينتفى من ثم الحق فى معارضتها سلميا ــ فالمعارضة تستحيل فورا خيانة لمقتضيات الضرورة الوطنية ــ أو فى البحث عن بدائل إن فيما خص التوجهات والأفعال ــ تصير زيفا إما عنوان تآمر على الوطن أو جهل بمصالحه العليا أو مثالية خائبة ــ أو الأشخاص 11 يخونون أو يشوهون أو يسفهون. غير أن مقولات الضرورة، وهى ذات تاريخ مديد يصل بين خمسينيات القرن العشرين وبين اليوم، تتجاوز فى صياغاتها وفى مجالات توظيفها تبرير الأحداث الكبرى ذات المحتوى السلطوى وإضفاء شرعية على منظومات الحكم / السلطة؛ فباسم الضرورة الوطنية أيضا تتحالف النخب الاقتصادية والمالية والإدارية مع الحكم / السلطة وهى فى الكثير من الأحيان تبتغى فقط حماية مصالحها وامتيازاتها وعوائدها، وباسم الضرورة الوطنية تتنصل نخب اليسار والنخب الليبرالية من الفكرة الديمقراطية وتنقلب على سيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات وتقبل إماتة السياسة كنشاط سلمى وحر وتعددى وتوافقى وتصمت على المظالم والانتهاكات مدفوعة إما بأوهام التعاقب والتأجيل أو بالرغبة فى الاقتراب من الحكم / السلطة وحماية المصالح والامتيازات أو بالسعى إلى التخلص من العدو الأيديولوجى الذى يجسده اليمين الدينى، وباسم الضرورة الوطنية يخرج على المجال العام الكثير من رموز النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية والإعلامية لتبرير المظالم والانتهاكات بمعايير مزدوجة بل وللترويج لهيستيريا العقاب الجماعى.

•••

أما الوهم الرابع الذى يسهم فى إحكام الحصار حول الفكرة الديمقراطية فى الواقع المصرى ويمنع تجذرها المجتمعى فمركزه «تديين السياسة وتسييس الدين» عبر الزج الفاسد للدين المنزه إلى دروب الحكم والسلطة وشئونها وشئون المجتمع والدولة، عبر الاستغلال الفاسد للدين المنزه ومساحاته ورموزه لإضفاء قداسة زائفة إن على منظومات الحكم / السلطة وتوجهاتها وأفعالها أو على جماعات وتيارات اليمين الدينى وسردياتها ومقولاتها وممارساتها، عبر التوظيف الفاسد للدين المنزه الذى يعود فى مصر إلى سياقات زمنية أبعد من منتصف خمسينيات القرن العشرين والذى تتورط به إلى اليوم مؤسسات دينية رسمية كما تحاوله جماعات وتيارات اليمين الدينى وينزع بادعاء احتكار الحقيقة المطلقة عن شئون الحكم والسلطة والمجتمع والدولة المحتوى الديمقراطى المتمثل فى التنوع والتعدد والاختلاف والتدافع السلمى وحق المواطن فى الاختيار الحر والتعبير الحر عن الرأى فى إطار سيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات.

يضفى وهم تديين السياسة وتسييس الدين، وبفاعلية مجتمعية يصعب إنكارها، على منظومات الحكم / السلطة وهى تخضع لإرادتها الانفرادية المواطن والمجتمع والدولة وتحارب بشراسة لحظات الطلب الشعبى على الديمقراطية شرعية اعتادت المؤسسات الدينية الرسمية (الإسلامية والمسيحية) ونخبها على صياغتها، وتجديدها لتواكب تنوع الأحداث واختلاف شخصيات الحكام وتوجهاتهم وأفعالهم؛ ويمكن جماعات وتيارات اليمين الدينى فى لحظات الصعود المجتمعى من ممارسة الاستعلاء على المختلفين معهم والاستخفاف بمقتضيات المواطنة وضمانات حقوقهم وحرياتهم حتى وهى تجتهد للانتساب للفكرة الديمقراطية، وتزين لهم فى لحظات التراجع الخلط الكارثى بين المقاومة السلمية للمظالم والانتهاكات التى يتعرضون لها وبين روايات مظلومية شمولية ومتطرفة ومعادية للآخر أينما كان تبرر التطرف والعنف والدماء؛ وفى الحالات جميعا تحاصر الفكرة الديمقراطية ويحاصر الباحثون عنها والمطالبون بها.

لا خلاص للفكرة الديمقراطية فى مصر من صنوف الحصار المفروضة عليها دون تفكيك للأوهام الأربعة، أوهام التعاقب والتأجيل والضرورة وثنائية تديين السياسة وتسييس الدين.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -