تكون في عز شبابك، فتلعب برأسك الأحلام، تفتح صدرك للدنيا، وأنت تشتهي منها الكثير، يقهرك ضياع بعض الأماني، وتضيق نفسك بتأجيل بعضها الآخر، ثم تنجب فتعرف طعمًا جديدًا للحياة، ولا تفهم شيئًا في البداية، ثم بعد سنين، تَقِلُّ أو تكثُر تفهم "اللي فيها"، وتصبح مستعدًّا لأن تقايض كل أحلامك وأمانيك، مقابل أمنية وحيدة ترجوها من الله، وهي أن يأتي يومك قبل يوم أبنائك وأحبابك. أنت تعلم أن الموت مصير كل حيّ، لكنك، أيضًا، تعلم أن موتك، وأنت ترى أبناءك وأحبابك ينعمون بالحياة والصحة، أمر أحبُّ إليك وأهون ضرراً، فكم هي غريبة هذه الحياة، وكم هو مُعقّد التكوين، هذا الإنسان الذي أودع الله فيه سره الإلهي، فجعله مستعدًّا لكي يموت فداء لأبنائه، ومستعدًّا، أيضاً، لكي يقتل أبناء الآخرين، من أجل بقاء أبنائه.
"كفى بالموت واعظًا..."، وأنت لو أكملت تلك العبارة التي تسمعها في كل جنازة، وكل عزاء، وكل خطبة جمعة لم تفُتك، لذكّرتك بأنّ "من لم يعظه الموت فلا واعظ له"، ومع ذلك، أو ربما لذلك، لا يَعِظنا الموت أبداً، ربما لأن الحياة نفسها، بكل صخبها وضجيجها، لم تَعِظنا، فكيف، إذن، يَعِظنا الموت بوحشته وخوائه؟ قد ترى ذلك منطقًا معكوسًا، لكنني أراه المنطق السليم. كان الأولى بنا أن نتعظ من وجوه الأطفال الضاحكة، وليس من وجوههم التي يكسوها شحوب الموت. كان الأولى أن يغيّرنا امتلاء الحياة وليس انتهاءها، كان يكفي نظرك إلى وجه من تحب، لكي تعيش عمرك مبتهلًا إلى الله أن يديمه عليك، حتى قدرتك على أن تشم هواء البحر وأنت تطالع لحظة الغروب مستمتعاً بصحتك، كانت كفيلةً بأن تجعلك خادمًا لعباد الله جميعاً، لكي تدوم تلك النعمة وحدها. لكنه الإنسان، يا صديقي، قادرٌ على أن ينسى هشاشته وضعفه أمام أول شعور قوة ينتابه، قادرٌ على أن ينسى الشعور المرير بالضآلة الذي يتملكه، بعد أن تناله مصيبة الموت في الأقربين منه، ذلك الشعور الذي لا يلبث، كل مرة، أن يتلاشى من دون أن يدري أحد كيف ولا لماذا؟ ليعود الإنسان إلى وهمه القديم بأنه يتحكم في مسار حياته، لأن الذي يموت فجأة، ومن دون سابق إنذار، هم فقط الآخرون وأبناؤهم وأحبابهم.
لا أريد أن أعظك، فالشيطان لا يَعِظ، لكن دعني أسألك: هل تذكر، الآن، عدد الجنازات التي شهدتها، وكان يمكن لها أن تغيّرك إلى الأبد، لكنك لم تتغير بعدها؟ هل تحب الحياة حقاً؟ فلماذا، إذن، لا تتذكّر أنها حق لكل من حولك؟ هل ساهمت في جعل حياة الآخرين أفضل، ولو قليلا؟ هل حاولت، في أثناء بحثك عن السعادة، أن تجعل حياة من حولك أقل تعاسة؟ وهل حقاً يجدي البحث عن السعادة؟ وهل هناك مهرب آمن من كل أسئلة الوجود التي تحاصرنا دائماً وأبداً؟
منذ سنين، كنت أظن أنني وجدت حلاً سحرياً للهروب من أثقال مخافة الموت. الآن، أدرك أنه ليس هناك من حل دائم، وأن كل ما بإمكاني فعله أن أحاول: أحاول تقليل ظلم الآخرين وإتعاسهم، أحاول، ما استطعت، تأخير وصول المرض إليَّ، لكي لا أثقل على من أُحب، فأوفر دعمهم الذي لا غنى عنه للكوارث والنوائب، أحاول فهم أخطائي والتسامح معها، أحاول أن أتصفح كل كتاب اشتريته، لكي لا أموت، وفي نفسي شيء منه، أحاول التخفف من أحمال الأصدقاء غير الضروريين، أحاول القبض على المتعة التي لا يعقبها ندم، أحارب كل شعور بالفخر بتذكّر مصائر الفخورين المزرية، أحاول أن أطلق، بين الحين والآخر، سجينًا من أسر محاكم تفتيشي، وأواصل السعي إلى تحقيق حلمي بأن يأتي اليوم الذي لا أفعل فيه شيئًا يضيع من عمري ولو دقيقة، من دون نفع لنفسي ولمن أحب، وأسعى إلى أن أحرر كل يوم شبرًا من وجداني، حين أتخلص من شيء كنت مضطراً لفعله، من دون أن أحبه.
وربما كان الأهم من ذلك كله، أنني أصبحت أشعر بالرضا، ولو مؤقتاً، لأنني اكتشفت الترتيب السليم للأولويات، في ما سأدعو به الله تعالى، ولعل التجارب ستجعلك تدرك مثلي مبكراً، أو متأخراً من يدري، أن الأولوية التي يجب أن تدعو الله بها دائماً وأبداً هي أن يجعل يومك قبل يوم من تُحِب، فبعد ذلك، هناك متسع في رحمة الله وكرمه لكل التفاصيل والأمنيات، حتى تلك التي تظنها غير لائقة للحضور في لحظات دعائك.
إذن، فليأت الموت متى حان موعده، لكن والنبي، يا رب، اجعله يأتينا قبل من نُحِبّ، وإلى أن يأتي، "آدينا بنعافر بعِزم ما فينا".
0 التعليقات:
Post a Comment