ما تزال التفاعلات الناجمة عن الهجوم الإرهابي الذي شن على مقر مجلة "شارلي إبدو" الأسبوعية, وهي مجلة هزلية فرنسية يقع مقرها في قلب العاصمة باريس, تتواصل وتتسع دائرتها تباعا, رغم مرور أكثر من اسبوع على وقوعها, إلى أن اصبحت باتساع العالم كله.


وفي تقديري أن تفاعلات هذا الحدث الكبير, والذي تذكرنا بعض ملامحه بأحداث سبتمبر الأمريكية, ستظل معنا لفترة طويلة قادمة. لذا لا أستبعد أبدا أن تصبح أوربا في مرحلة "ما بعد عملية شارلي" مختلفة تماما عما كانت عليه قبلها, مثلما أدت التفاعلات الناجمة عن "أحداث سبتمبر" إلى أن تصبح الولايات المتحدة الأمريكية مختلفة تماما عما كانت عليه قبلها.


بدأت أحداث "عملية شارلي" قبل ظهر يوم الأربعاء الموافق 7 يناير, حين قرر الأخوين شريف وسعيد كواشي, وهما مسلمان فرنسيان من أصل جزائري, باقتحام مقر المجلة الهزلية المتهمة بالإساءة إلى النبي محمد عليه السلام, وتوجها مباشرة إلى قاعة كانا يعلمان مسبقا أن اجتماعا لهيئة التحرير يعقد فيها, ثم قاما بإطلاق النار عشوائيا على المجتمعين ولاذا بالفرار, ليتحصنا, بعد اكتشاف أمرهما, في مطبعة تقع على بعد عشرات الأميال شمال العاصمة الفرنسية. وقد اسفر الهجوم عن مقتل 12 شخص, من بينهم مدير التحرير وأربعة من كبار رسامي الكاريكاتير وشرطي فرنسي مسلم من أصل تونسي (يدعى مصطفى أوراد).

ولم تكد تمر ساعات قليلة حتى قام شخص يدعى أحمدي كوليبالي, وهو مسلم فرنسي أيضا من أصل إفريقي, بقتل شرطية فرنسية برصاصة في ظهرها, قبل أن يقرر اقتحام متجر يبيع المأكولات اليهودية في إحدى ضواحي باريس, ويقوم باحتجاز عدد غير محدد من الرهائن, ويطالب من هناك بفك الحصار المضروب حول المطبعة ومبادلة الإخوين كواشي بمن يحتجزهم من الرهائن, وحينئذ فقط تبين أن الحادثين مرتبطين ويشكلان معا وجهان لنفس العملية الإرهابية. بعد ساعات, بدت طويلة كدهر, تمكنت أجهزة الأمن الفرنسية من شن غارتين متزامنتين وناجحتين, أسفرتا عن مقتل الإرهابيين الثلاثة وأربعة من الرهائن المحتجزين في المتجر اليهودي, قيل أن الخاطف هو من قام بتصفيتهم بنفسه قبيل وإبان عملية الاقتحام.

ولأن مسلسل الأحداث استغرق ما يقرب من ثلاثة أيام متواصلة حبس العالم خلالها أنفاسه, فقد كان من الطبيعي أن تأتي ردود الأفعال على نفس المستوى, وألا تقتصر على الفرنسيين وحدهم, شعبا وحكومة, وإنما راحت تتسع لتشمل كوكب الأرض, شعوبا وحكومات. فقد راحت كافة الأطراف, كل بطريقته تتفاعل مع الحدث الجلل وتحاول توظيفه واستخدامه لصالحها.

فقد نسي الشعب الفرنسي كافة خلافاته وتوحدت جميع فصائله حول شعار "Je suis Charlie" (كلنا شارلي) ونزل ما يقرب من أربعة ملايين مواطن إلى الشوارع حاملين نفس الشعار دون تمييز بين يمين أو يسار أو وسط, وتقاطر رؤساء دول وحكومات ووزراء وكبار مسئولين من خمسين دولة ليتقدموا المسيرة الشعبية تعبيرا عن تضامنهم, بل ورأينا نفس الشعار يرفع في كل عواصم العالم في لحظة توحد نادرة. فهل كان العالم حقا على قلب رجل واحد؟ وهل نتوقع أن تتوحد سياسات الدول والشعوب منذ الآن فصاعدا في مواجهة الإرهاب؟ لا أعتقد ذلك وإن كنت أتمنى من كل قلبي أن تتحقق هذه الوحدة.


ليس لدي شخصيا أي مشكلة في أن أرفع شعار "كلنا شارلي" إذ كان يعني إدانة الارهاب والدفاع عن حرية التعبير. فالعمل الذي قام به هؤلاء الأوغاد الثلاثة لا يمكن تبريره أو الدفاع عنه أو التماس الأعذار لمن ارتكبوه بأي وجه من الوجوه, ومن ثم يتعين إدانته وتجريمه بشكل مطلق وبلا تحفظات.

ورغم أنهم قد يكونوا مقتنعين فعلا بأنهم لم يقدموا على ما فعلوه إلا غيرة على دينهم, وحبا في نبيه, وانتقاما لما لحق برسول الإسلام من إهانة على يد بعض من سقطوا من الضحايا, إلا أنه من الواضح تماما أن المستوى الثقافي والتعليمي لهؤلاء لا يسمح لهم باستيعاب صحيح الدين الإسلامي, خصوصا وأن لاثنين منهم على الأقل سوابق إجرامية وصدرت ضدهم أحكام بالسجن في حوادث سرقة وتجارة مخدرات, وبالتالي فليسوا سوى مجرد أدوات للقتل تستخدم من جانب أطراف عديدة, لا شك أن من بينها أجهزة مخابرات تعمل لصالح قوى ومصلح دولية مختلفة, مستغلة عمق المشاعر الدينية عند المسلمين وأوجه الظلم الكثيرة التي عانت وما تزال تعاني منها الشعوب الإسلامية.

وقد كان كاشفا حقا, فضلا عن أنه كان مضحكا ومثيرا للسخرية في الوقت نفسه, أن نرى نتانياهو, رئيس وزراء الدولة التي يشكل تاريخها كله سلسلة لم تنتهي بعد من جرائم العدوان وجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية, يتقدم صفوف المتظاهرين ضد الإرهاب والحاملين لشعار "كلنا شارلي".

أما إذا كان شعار "كلنا شارلي" يعني الموافقة على النهج الذي تستخدمه صحيفة "شارلي إبدو" وطريقتها في التعبير عن حقها في ممارسة "حرية الراي", فليسمح لي كل الذين رفعوه في مظاهرة باريس أن اختلف معهم كل الاختلاف. فليس هناك, في تقديري, حريات أو حقوق تقبل الممارسة بلا ضوابط تنظمها.

فحرص الإنسان على ممارسة حقوقه يجب أن يقابله نفس الحرص على احترام حقوق "الآخر المختلف", ونطاق الحرية المسموح بممارستها يتعين أن يتوقف ليس فقط عند حدود الحرية الممنوحة للآخرين ولكن أيضا عند حدود كرامتهم أيضا. ولأن حضارات الشعوب وثقافاتها تعد من المكونات الأساسية للشخصية الإنسانية, فمن الضروري كفالة احترامها باعتبارها وعاء للكرامة الإنسانية.

ومن المؤكد أن صحيفة "شارلي إبدو" لم تحترم أبدا هذه الضوابط, وتعاملت مع الثقافة والحضارة العربية والإسلامية باستخفاف واحتقار وتعمدت توجيه الإهانة لهما في كثير من الأحيان, خاصة في السنوات الأخيرة.


قد يقال أن هذه الصحيفة تسخر من كل شيء ومن الأديان جميعها, بما في ذلك الدين المسيحي والدين اليهودي, غير أن في هذه الحجة عذرا أقبح من الذنب لأن كتاب هذه الصحيفة ورساموها يدركون تمام الإدراك أن الإسلام عند المسلم ليس مجرد عقيدة أو دين, مثلما هو الحال عند المسيحي أو اليهودي, ولكنه حضارة وثقافة وهوية في الوقت نفسه, وبالتالي فإن الإساءة للإسلام, حتى بالنسبة لغير المتدينين منهم, تعد إساءة لحضارة وثقافة وهوية شعوب بعينها, وبالتالي يصعب التعامل مع ما تنشره الصحيفة من رسوم كاريكاتوية أو تعليقات تمس الإسلام باعتباره نوعا من حرية الرأي ولكن باعتباره موقفا يعبر عن كراهية عنصرية وإهانة متعمدة لشعوب ولثقافات بعينها. والتعلل بحرية الراي لن ينطلي على أحد في مجتمعات تجرم المساس بالصهيونية وكل من يشكك في "الهولوكوست", حتى ولو كان من خلال أطروحة أكاديمية أو دراسة ميدانية.


لقد أقمت في باريس طوال الفترة من 1970-1977, حين كنت أحضر لدراسة الدكتوراة, وبالتالي أتيح لي أن أتابع تطور هذه المجلة الساخرة التي تأسست في نهاية الستينات وبداية السبعينات والتي ظلت طوال هذه الفترة هامشية تماما ومحدودة الوزن والتأثير, حتى بالمقارنة بمثيلاتها والتي كانت مجلة Le Canard enchaine , أي "البطة المقيدة", أهمها وأكثرها تأثيرها.

وقد ذهلت عندما طالعتنا الأخبار التي أعقبت العملية الإرهابية بأن هذه المجلة التافهة التي تسمى "شارلي إبدو" طبعت ثلاثة ملايين نسخة من عددها الأخير, بما بينما لم يتجاوز رقم توزيعها حتى الآن ستين ألف نسخة. ألا يعد هذا التطور في حد ذاتها دليلا دامغا على تطرف وعنصرية المجتمعات الغربية؟

ولأنني ضد التطرف, ايا كان لونه أو مصدره, فإنني أعلن إدانتي التامة للعملية الإرهابية التي تعرضت لها صحيفة "شارلي إبدو", باعتبارها لونا من ألوان التطرف باسم الدين, كما أعلن إدانتي للنهج الذي تسير عليه هذه الصحيفة, باعتباره لونا من ألوان التطرف باسم "حرية الرأي". ولهذا السبب Je ne suis pas Charlie

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -