كل الأبناء الذين تجاوزوا العشرين لديهم بالضرورة مشكلات مع أمهاتهم اللواتي تجاوزن الخمسين. لكن مشكلتي مع أمي كانت، كعادة كل مشاكلي معها.. وكعادة أمي نفسها، فريدة من نوعها. كنت قد ذهبت لأستقبلها في المطار، وهي قادمة من زيارة طويلة لأخي في الكويت، ظللت أنتظرها ساعات طويلة، مذلولاً بين يدي موظفات الاستعلامات العوانس وضباط المطار المكتئبين والنقص العادي للمعلومات العادية. أين يمكن أن تكون قد ذهبت؟ هل ركبت طائرة خطأ إلى دولة أخرى؟ هل هي محتجزة في مكاتب الأمن، لتشابه اسمها مع اسم استشهادية ما؟
كل الاحتمالات فكرت فيها إلا أن يتصل بي الجيران، ليقولوا لي إنهم ألفوها تجلس على بسطة سلم عمارتنا، ثم يضيفون، ضاحكين، إنها دخلت لتتوضأ في شقة جاري الباشمهندس رأفت المسيحي وكادت تصلي العصر حاضراً في شقته، لولا أنها رأت صورة الأنبا كيرلس تتوسط الصالة، فقررت أن تصلي على بسطة السلم، بعد أن تحججت أنها لا بد أن تنزل فوراً لعمل مكالمة دولية طارئة، قبل أن تعود، بعد الصلاة، إلى شقة رأفت.
لم أستطع أن أرد على لوم رأفت وباقي الجيران، لأنني تركت أمي "كده"، فلم أكن قد عرفت بعد أن سر توهتنا عن بعض في المطار أنها قررت أن ترتدي النقاب مؤخراً، لو قلت لهم ذلك لما صدقوني، فقد رأوها سافرة الوجه "بس المرة دي الحاجة رادّة ما شاء الله"، عندما قالت لي ذلك، وقد لمَّنا بيتي بحيطانه، فوجئت بنفسي أسألها لماذا لم تُبقي عليه، لأبقي على ماء وجهي أمام الجيران، "قلعته في التاكسي أصل بصراحة الهوا كان حلو قوي، وأنا كنت مخنوقة منك، عشان ماجيتش تستقبلني، قلت أخلي الهوا يطس في وشي، بدل ما أعيّط وأفضح نفسي". هممت أن أسألها لماذا تنقبت أصلاً، لكنني تذكرت القلم الذي سكعته لي من كام شهر، عندما قلت لها إنها لا بد أن تخلع الخمار، أساساً، لأنها صارت من القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً. "قواعد في عينك.. ده أنا أصغر من نادية الجندي بييجي عشرين سنة".
سأفهم لماذا تتنقب أمي، الآن، عندما أفهم، مثلاً، لماذا أقسمت بأغلظ الإيمان ألا تحضر فرحي، وقد كان فلم تحضره: "مش عايزه أنحسك يا ابني.. قلبي اتفتح للبنت دي بطريقة لا تتخيلها.. بادعي لها وربنا في كل سجدة.. مش عايزه قدمي السعد يوقف حالها".. أبكي بين يديها "يا امه عيب الكلام ده.. ده إنتي الخير والبركة".."الكلام ده نقوله قدام الغريب يا وله".."طب والله العظيم تلاته مش ها...".."يمين بالله لا أنت ابني ولا أعرفك لو كملت.. خد عندك بقى.. يا رب أطب ساكتة لو غصبت عليا أحضر الفرح". وبعدها وكلما شَهِدت لحظة هناء بيني وبين زوجتي، نظرت إلي نظرة ذات مغزى، ثم في أقرب لحظة نختلي فيها سوياً، تقول لي بسعادة غامرة "عشان تعرف إن أمك قلبها عليك.. مش لو كنت جيت الفرح كان زمانكو في محكمة الأسرة".
الذين استغربوا من الجيران أنني لم أحتضنها عند رؤيتها، لن يفهموا أنني كلما لمستني أمي، اندفعت باكياً كأني طفل "حط صباعه في الكهربا". ولذلك، أنا وهي ومنذ أن كبرنا، نسلم على بعضنا من بعيد لبعيد، ومع ذلك أبكي، بعد لحظات من المقاومة، وبكائي يجر بكاءها، وبكاؤها يجر حزناً ليس له من دون الله كاشفة، أقول لها، ونحن ما بين بكاءين، "يا حاجة مش عارف أودي جمايلك فين على الميراث العظيم اللي سبتهولي"، تنظر إليّ مرتابة ومترقبة موطن التريقة في كلامي، ثم تقول "طبعاً مش كفاية القرآن اللي حفظتهولك، بس إنت فلاتي ضيعته وضيعت روحك في كلام الكتب الفارغ"، أقول لها "أنا قصدي جرثومة الحزن اللي ورثتيها لي، مش عارف أشكرك إزاي عليها"، تنظر إليّ متفرسة كأنني خرجت حالاً من رحمها، ثم تضحك من قلبها ضحكاً حقيقياً، تختمه بنظرة إعجاب، قبل أن تقول وصفها الأثير لي "إنت.. إنت مصيبة"، ثم تبكي من باب الاحتياط.
في الصالة، أمعنت النظر في وجهها الذي كان صامداً حتى وقت قريب، وما استطعت أن أمسك نفسي عن أن أقول "ملعون أبو الدنيا"، وهي لم تأخذ بالها من مغزى لعنتي، وقالت غاضبة "في حديث صحيح عن سيدك النبي بيقول لا تسبوا الدهر"، أشاغبها قائلا "عليه الصلاة والسلام، بس أنا بالعن الدنيا، والدنيا غير الدهر". تشتد غضباً، وتقول "في حديث صحيح بينهي عن الجدال"، فأقول لها "طيب ما فيش حديث صحيح بينهي عن الوقوف للناس على الواحدة"، فتترك لي الصالة، وهي تقول "ملعون أبو شكلك".


العربى الجديد

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -