هل ثمة وزن حقيقى فى المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب فى إدارة شئونها الداخلية بالقيم الديمقراطية «الوطنية» المتمثلة فى سيادة القانون، فى تداول السلطة عبر الاختيار الحر للمواطن وعبر مشاركته الطوعية فى الحياة السياسية كنشاط سلمى وتعددى وحر يحدث داخل حدود المجتمع والدولة ويهدف لتحديد جوهر صالح المواطن والمجتمع والدولة – الصالح العام ــ وإدارة التفاوض بين النخب النافذة بغية بناء التوافق بشأن استراتيجيات وأدوات تحقيق الصالح العام، فى صون حقوق الإنسان والحريات، فى قبول الآخر المجتمعى والتسامح مع الاختلاف ونبذ التعصب والتطرف والعنف، فى مناهضة التمييز ومظالمه التى يرتبها العجز عن إقرار (القانون) وتفعيل (الممارسة) المساواة الكاملة بين مواطنات ومواطنين يختلفون فى النوع كما تتفاوت أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وقد يختلفون فى العرق والدين والمذهب والقناعات والأفكار وكما تتفاوت حظوظهم من التعليم والعمل والثروة؟

•••

هل ثمة وزن حقيقى فى المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب فيما بينها بالقيم الديمقراطية «العالمية» المتمثلة فى تجنب الحروب والصراعات المسلحة والمواجهات العسكرية، فى رفض تجدد معاناة البشرية المعاصرة من جراء المذابح وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وسقوط الأبرياء ضحايا للحروب الأهلية – المدفوعة بصراعات الموارد كما بصراعات العرق والدين والمذهب – وضحايا لجنون الإرهاب ولانتهاكات حقوق الإنسان ومن ثم التدخل الجماعى / التوافقى للحيلولة دون نشوب هذه الشرور أو لاحتوائها حال النشوب، فى العمل الجماعى / التوافقى باتجاه تخليص البشرية المعاصرة من أزمات الفقر والمجاعات والأوبئة العابرة لحدود المجتمعات والدول وباتجاه حمايتها من الأخطار البيئية والأخطار الناجمة عن توظيف التقدم العلمى والتكنولوجى فى مجالات سلمية كالطاقة النووية وأخرى غير سلمية كتطوير الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، فى الامتناع الطوعى للمجتمعات المتقدمة أو الغنية ولدولها عن العصف بمقدرات المجتمعات والدول الضعيفة أو محدودة مصادر التقدم والثروة وتكريس تبعيتها والتعامل معها فى أطر إقليمية ودولية جوهرها المساواة والشراكة والتنمية المتوازنة والتمكين، فى التوافق على ترتيبات فعالة للحفظ السلم والأمن إقليميا وعالميا وفى إقرار حق جميع الأمم والشعوب فى تقرير المصير والسيادة الوطنية وفى مواجهة النزوع العدوانى – عسكريا كان أو اقتصاديا أو سياسيا أو استيطانيا ــ لبعض المجتمعات والدول ورغبتها فى إخضاع جوارها المباشر أو العالم بأسره؟

•••

بعبارة بديلة، هل ثمة وزن حقيقى فى المنظومة المعاصرة للعلاقات الدولية لالتزام الأمم والشعوب بالقيم الديمقراطية بعيدا عن احتفاليات توقيع المواثيق والعهود العالمية لحقوق الإنسان وللحريات وجلسات التصديق عليها فى البرلمانات المنتخبة ومسخها المعين، بعيدا عن بعض نقاشات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها وأنشطة المجلس الأممى لحقوق الإنسان وبعض الوكالات الأممية المتخصصة، بعيدا عن نمطية إعلان حكومات الغرب الأمريكى والأوروبى عن برامج «لدعم الديمقراطية» ولتنشيط «جهود التنمية المستدامة» وعن مخصصات مالية لهذه البرامج، بعيدا عن تقليدية تشديد مجتمعات ودول كبرى كالصين وروسيا على ضرورة المزج بين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وبين الحقوق والحريات الشخصية والمدنية والسياسية وعلى حتمية صون السيادة الوطنية للمجتمعات وللدول غير الغربية وامتناع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبى عن التذرع بانتهاكات الحقوق والحريات للتدخل فى شئونها، بعيدا عن استنساخ الخطاب الرسمى للعدد الأكبر من حكومات بلاد العرب للمقولات الصينية والروسية وإضافة شىء من حديث «خصوصية المجتمعات والدول العربية» إليه لكى تهمش انتهاكات الحقوق والحريات والمظالم المتراكمة وتحتكر الحكومات منفردة تعيين مقتضيات الحفاظ على الاستقرار والأمن وتماسك الدول الوطنية وتدعى استحواذها وحدها على المعرفة الواقعية والعملية بضرورات تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق التنمية المستدامة؟

حتما سيدفعنا البحث عن إجابات موضوعية على مجموعات التساؤلات هذه إلى إدراك أن الفكرة الديمقراطية تمر لجهة قيمها «الوطنية» كما لجهة قيمها «العالمية» بأزمة عاصفة، وإلى التثبت من عودة أفكار كبرى أخرى لمنازعتها المصداقية الأخلاقية والإنسانية فى أطر إقليمية ودولية متنوعة، وإلى الاعتراف بأن خطاب «الانتصار النهائى» للديمقراطية – فى صياغتها الليبرالية المرتبطة بالمؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة وباقتصاد السوق الحر وبالمبادرة الفردية – لم يعد له ذات التوهج المعرفى والمجتمعى والسياسى الذى كان له فى خواتيم القرن العشرين بعد سقوط الاتحاد السوفييتى السابق وانهيار الكتلة الشرقية بحكومات الأحزاب الواحدة واقتصاديات التخطيط المركزى. وسيقتصر تناولى اليوم لأزمة الفكرة الديمقراطية على عناصرها ذات الصلة بالغرب الأمريكى والأوروبى الذى مازالت حكوماته تدعى الالتزام بالقيم الديمقراطية وطنيا وعالميا وتنكر النواقص الهيكلية التى ترد عليها، على الرغم من تنامى إدراك الرأى العام والنخب الفكرية والأكاديمية والمجتمعات المدنية فى الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الاتحاد الأوروبى لهذه النواقص وتداعياتها الخطيرة. وعلى أن أتناول فى مقال السبت المقبل بإذن الله عناصر أزمة الديمقراطية خارج الغرب.

فالولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، وهى كانت تأتى تقليديا فى طليعة المجتمعات والدول التى يشار إليها إيجابيا فيما خص الالتزام بقيم سيادة القانون وتداول السلطة وصون الحقوق والحريات فى إدارة الشئون الداخلية، تواجه اليوم عصفا منظما بالفكرة الديمقراطية ــ تراجعات متراكمة لسيادة القانون بسبب نزوع حكومات الغرب الأمريكى والأوروبى المنتخبة للتغول أمنيا على المواطن وإخضاعه جهرا أو سرا لصنوف مختلفة من المراقبة الدائمة وتمرير التشريعات الاستثنائية لإضفاء شرعية إجرائية على تشويه هوية المواطن باختزاله فى وجود فردى وجماعى يتعين مراقبته وضبطه وبالتبعية السيطرة عليه، هيمنة النخب الحزبية والسياسية والإدارية والمصالح الاقتصادية والمالية على المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة واستبعادها لقطاعات شعبية واسعة لا تستدعى للتأثير فى تحديد صالح المواطن والمجتمع والدولة وفى عمليات صناعة السياسة العامة إلا فى مواسم الانتخابات وانفصال المؤسسات المنتخبة عبر حواجز وأسوار بيروقراطية متعددة، الفوارق الاقتصادية والاجتماعية متواصلة الاتساع بين الأغنياء وميسورى الحال فى الغرب وبين محدودى الدخل والفقراء التى يرتبها الانقلاب على سياسات الرفاه والتخلى عن الكثير من إجراءات العدالة الاجتماعية فى سياق الصعود السريع للرؤى النيوليبرالية (أو الطبعة المتوحشة للرأسمالية كما أسماها عالم الاقتصاد المصرى الراحل الدكتور رمزى زكى) ومن ثم تبلور حقائق مجتمعية جديدة جوهرها التمييز ضد قطاعات شعبية واسعة، احتكار النخب الحزبية والسياسية والإدارية والمصالح الاقتصادية والمالية للمجال العام وانغلاق مساحات المجال العام – خاصة الإعلامية – على الرؤى والأفكار التى تتداولها هذه النخب والمصالح واستبعادها المنظم للخارجين عليها.

•••

كذلك يتعرض التزام الغرب الأمريكى والأوروبى بالقيم الديمقراطية «العالمية» لتآكل كارثى مصدره انتهاكات حقوق الإنسان التى تورطت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة وبعض الحكومات الأوروبية خاصة تجاه البلدان العربية والإسلامية وضياع المصداقية الأخلاقية والإنسانية لحديثها عن دعم الديمقراطية خارج حدودها، «الحروب المتتالية على الإرهاب» التى تشنها الولايات المتحدة وبعض البلدان الأوروبية خارج حدودها ويضرب فى سياقاتها عرض الحائط بسيادة القانون وضمانات الحقوق والحريات وبحتمية المزج بين الأدوات العسكرية والأمنية وبين الأدوات القانونية والتنموية والمجتمعية، الإخفاق المتراكم للسياسات التنموية الأمريكية والأوروبية تجاه المجتمعات والدول غير الغربية التى لم تخرج من تبعيتها إلا فى حالات استثنائية وشديدة الخصوصية – كما فى الصين وتدريجيا فى البرازيل والهند، واستمرار نزوع الولايات المتحدة وبدرجات أقل بعض الحكومات الأوروبية للسيطرة على ترتيبات الأمن الإقليمى والعالمى عبر الانتشار العسكرى فى قواعد عديدة وعبر مواصلة إنتاج وتطوير العتاد التقليدى وأسلحة الدمار الشامل وعبر تصدير السلاح لحكومات ولأطراف غير حكومية دون ضمانات ديمقراطية بل ودون ضمانات أمنية حقيقية.

الشروق

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -