لى فيها بعض رفاق من محطات الحياة التى مضت، لى فى هذه البلاد بعض الأصدقاء الأجمل حفظا للود والأرقى إخلاصا لقيمة الصداقة.
لى فى اليمن خالد ــ سأحتفظ بلقبه لنفسى كما سأحتفظ بألقاب الذين سأشير لهم فى الفقرات التالية، فهم مواطنون عاديون لا يختلفون عن أغلبية أهل اليمن.
فى صيف 1988، وبعد حصولى على بكالوريوس العلوم السياسية من جامعة القاهرة وقبل بدء خدمتى العسكرية، تزاملت وخالد فى حضور برنامج أكاديمى فى الولايات المتحدة الأمريكية لشباب خريجى أقسام العلوم السياسية والاقتصاد والاجتماع من بعض الدول العربية. تنقلنا لمدة شهر بين عدة جامعات ومدن أمريكية، شاركنا فى الكثير من المحاضرات عن العلوم الاجتماعية وطرق تدريسها فى الولايات المتحدة، حضرنا بعض الجلسات السياسية العلنية، التقينا ببعض الأسر العربية ــ الأمريكية، أمضينا أمسيات رائعة مع الزملاء المشاركين فى البرنامج من الكويت ولبنان والسودان وتونس والمغرب، تواصلنا مع شباب خريجين من بلدان آسيوية وإفريقية وأمريكية لاتينية وكان أكثرهم مرحا خريج شاب من بومباى الهندية لم يكف ولو للحظة عن نقد الإمبريالية الأمريكية والسخرية أيضا من فقر مجتمعاتنا وتمنى حصوله على فرصة للدراسة وللعمل فى نيويورك.
***
هون على خالد، صاحب الصوت الخفيض والابتسامة الدائمة، غربة أيام البرنامج ومحاضراته ثقيلة الظل وحدثنى باستفاضة طيبة عن أسرته وقبيلته، عن جامعة صنعاء وأحلام المستقبل الأكاديمى الذى ينبغى أن يتواصل بماجستير ودكتوراه فى جامعة أمريكية مرموقة، عن الفساد والمحسوبية فى اليمن وحتمية التمتع بحماية القبيلة لمنع السلطة الحاكمة من التغول على الناس، عن الأمل فى توحد اليمن الشمالى الذى كان منه واليمن الجنوبى الذى لم يكن قد زاره أبدا، عن تقدم اليمن الممكن وعن تجاوز فقر السكان وعن طبيعة اليمن الساحرة.
وبعد انتهاء البرنامج وعودة المشاركين إلى ديارهم، حضر خالد إلى القاهرة لزيارتى وقضاء بعض الوقت متسكعا على مقاهيها، كما كان يقول. وبعدها انقطع التواصل بيننا ما إن ذهب خالد بالفعل لدراسته العليا فى الولايات المتحدة، وذهبت أنا إلى جامعات أوروبية. وبعدها حملتنى بعض المؤتمرات الأكاديمية وورش العمل الجامعية والمشاركة فى بعثة عربية غير حكومية لمراقبة الانتخابات الرئاسية والمحلية فى 2006 إلى صنعاء وتعز وآب ومدن يمنية أخرى، ولم أتمكن أبدا وعلى الرغم من محاولات عدة من معرفة مكان خالد. فقط، لم تتوقف ذاكرتى عن اختزان تفاصيل رفقته قصيرة الأمد، ولا عن الاستدعاء الدورى لحوار كان بيننا بشأن الصومال الذى بدأت بوادر حربه الأهلية نهاية الثمانينيات وعبر خالد حينها عن تخوف من انفراط عقد دولته الوطنية. انفرط عقد الصومال بالفعل يا خالد، واليوم، وبعد أن توحد اليمن بداية التسعينيات وتجاوز الحرب الأهلية فى منتصفها، تعمل دينامية التفتت الصومالى معاول هدمها فى وطنك العزيز على قلبى وتسقطه فى دوائرها الفاسدة. فأين أنت؟
***
لى فى اليمن آمال، العاملة منذ سنوات فى مجالات التنمية المحلية وحقوق المرأة وتشبيك المنظمات غير الحكومية فى بلاد العرب.
هى آمال، وكنت قد تعرفت عليها فى مؤتمر عن حقوق الإنسان فى العالم العربى عقد فى 2005 بمدينة الرباط المغربية، التى مكنتنى فى زياراتى لليمن من التعرف على حقائق الحياة الاقتصادية والاجتماعية بعيدا عن المناخات المصطنعة للمؤتمرات ولورش العمل. هى آمال، التى شرحت لى التفاصيل الحاكمة لظواهر مجتمعية بدت لى عصية على الفهم بتوظيف العدسة الأكاديمية فقط. هى آمال، التى من خلالها تعلمت الكثير عن نضال المرأة اليمنية فى المدن والمناطق الريفية وفى ظل شبكة من العلاقات المجتمعية الذكورية المحكومة بالاعتبارات القبلية وبالولاء للرجل رأس القبيلة وفى ظل مؤشرات فقر وبطالة وغياب للخدمات الأساسية تصيب المرأة وخاصة المرأة المعيلة قبل الرجال.
خلال السنوات الماضية، حالت ظروف مصر وظروف اليمن وظروفى الشخصية دون زيارة اليمن ودون التمكن من المشاركة فى بعض المؤتمرات العربية عن حقوق الإنسان التى حضرتها آمال ــ كما علمت من قوائم المشاركات والمشاركين فى المؤتمرات هذه. طوال الأشهر الماضية وعلى نحو أكثر انتظاما اليوم، أتابع أخبار اليمن، أحاول الاطمئنان على آمال وأسرتها وحيها السكنى الذى تواجدت به أكثر من مرة، أتذكر تخوفاتها الدائمة من انفصال الشمال والجنوب ثم من تفتت المجتمع والدولة الوطنية ثم من القوى القبلية والمذهبية التى لا يعنيها بقاء اليمن متماسكا ولن تمتنع عن التورط فى حروب الكل ضد الكل من أجل حماية مصالحها وامتيازاتها ومصالح الأطراف الإقليمية والدولية التى تتحالف معها. أتذكر شفافية ودقة ملاحظات آمال، وأتألم من حال اليمن الراهن.
***
لى فى اليمن علوى، رفيق دراسة ماجستير التنمية فى هولندا وصديق حياة حقيقى. تزاملنا فى دراسة الماجستير بداية التسعينيات، وتوثقت أواصر الصداقة إلى الحد الذى كان يسعى معه علوى (صاحب العلاقات الإنسانية الكثيفة للغاية) إلى «تزويجى» (ضبطى أسريا كما كان يقول) بعد أن انتهينا من الماجستير وقبل أن أتوجه إلى برلين للشروع فى دراسة الدكتوراه. أخفقت «مؤامرة» علوى على حريتى الشخصية، واستمر نجاح صداقتنا وتتابع تواصلنا فى زياراتى لليمن وبينها عبر أدوات التواصل التكنولوجى المختلفة التى يعشقها علوى.
علوى، صاحب العمل التجارى والاستثمارات الخاصة وساكن صنعاء الدائم مع زوجته وأولاده، أجبره حال اليمن خلال السنوات الماضية وأجبرته دينامية التفتت الصومالى على الذهاب بأسرته بعيدا جدا، إلى أقصى الشمال فى كندا بحثا عن الأمان وعن فرص تعليم متماسكة وعن حياة لا تتحدد ملامحها الكبرى وفقا ﻹيقاع حروب الكل ضد الكل العبثية.
لم يكن علوى أبدا يعتزم مغادرة اليمن. وكان دوما من المتفائلين بتجاوز ناجح لمحطات التغيير السياسى والمجتمعى فى أعقاب 2011، ومن التخلص التدريجى والمنظم من فساد حكم الرئيس السابق على عبدالله صالح ومن عنف القوى القبلية والمذهبية. اليوم، لم يعد علوى يرى إلا التفتت والانهيار ومعاول هدم على المدى الطويل، ولم يعد له ولأسرته من بدائل سوى البعد والغربة ومكابدة الهم والغم.
***
حكايات إنسانية كثيرة تدور من حول حروب الكل ضد الكل، من حول المواجهات العسكرية المتصاعدة فى مناطق اليمن المختلفة، من حول العمليات الجوية والبحرية والبرية التى يندفع بها جوار اليمن إلى التورط فى داخله ولا تشير البيانات الرسمية ولا التقارير الصحفية الأولية عن ضحاياها من المدنيين. حكايات إنسانية كثيرة، أستصرخكم ألا تتجاهلوها.
حزين عليك يا يمن، حزين عليك كحزن رفاق محطات زمنية ولت، وكحزن الأصدقاء وأسرهم وكل أهل اليمن الذين لا يستحقون انتهاك حقهم المقدس فى الحياة ولا استباحة دمائهم ولا تفتيت وتدمير وطنهم. حزين عليك يا يمن.
اقتباس
حزين عليك يا يمن، حزين عليك كحزن رفاق محطات زمنية ولت، وكحزن الأصدقاء وأسرهم وكل أهل اليمن
الشروق
0 التعليقات:
Post a Comment