محال أن يكون السبب الموضوعي الوحيد لنزوع الرأي العام في مصر تقييم الأحزاب السياسية وأدوارها على نحو سلبي هو تواصل حملات التشويه والتشكيك والنقد التي تديرها بعض الدوائر الرسمية والإعلامية ضد الأحزاب وتروج من خلالها لضعف كياناتها وغياب فاعليتها وتكالبها على المصالح الضيقة والحسابات الشخصية. محال أيضا أن تختزل الأسباب الموضوعية الأخرى للتقييم السلبي للأحزاب في محدودية أدوارها التي يفرضها عليها وعلينا طغيان المكون الأمني على الحياة السياسية في مصر، بل وموت الأخيرة بوصفها نشاط سلمي وتعددي وحر يستند إلى حق المواطن في الاختيار ويبتغي الصالح العام.

أدرك جيدا أن لحملات التشويه والتشكيك والنقد آثارها المدمرة، ويصعب تجاهل إن الضغوط الكثيرة التي ينتجها طغيان المكون الأمني أو الفرص المحدودة للنشاط الجماهيري وللفاعلية التنظيمية التي تتيحها للأحزاب حياة سياسية أميتت وقمع تلوح دوما احتماليته ومشاهد انتخابية تفتقد للجوهر الديمقراطي وللمضمون التنافسي ويتهددها العزوف الشعبي – كما دلل السياق القانوني والتفاصيل الواقعية لمشهد الانتخابات البرلمانية قبل أن توقفه المحكمة الدستورية العليا. غير أن الحقيقة الموضوعية أيضا هي أن إخفاقات متراكمة للأحزاب السياسية تدفع الناس إلى تقييمها على نحو سلبي، وتصنيفها ككيانات ضعيفة وعاجزة، ومن ثم إلى الانصراف عنها إما باتجاه التعويل الأحادي على فعل منظومة الحكم / السلطة ومؤسسات وأجهزة الدولة التي تسيطر عليها أو باتجاه الانسحاب من الشأن العام والعزوف عنه.

فالمواطن المصري ينظر حوله، ليجد ساحة حزبية شديدة التفتت، إلى اليوم وعلى الرغم من تداعيات التفتت شديدة السلبية لم تحدث بها محاولات جادة لدمج أحزاب صغيرة ومتوسطة لا فاعلية لها في كيانات أكبر قد تتوفر لها جماهيريا وتنظيميا وماليا قدرات حقيقية.

ينظر المواطن حوله، ليجد ساحة حزبية ترفع بها شعارات الديمقراطية والحقوق والحريات والتنمية المستدامة والشفافية والنزاهة، وأحيانا العدالة الاجتماعية، وهباء يضيع وقته في البحث عن برامج حزبية محددة تترجم هذه الشعارات البراقة إلى حزمة مقترحة من التشريعات والسياسات والإجراءات تتسم بالقابلية للتنفيذ وبالحسابات الواقعية – حتى حين تتاح بعض الفرص الفعلية للترويج لبرامج الأحزاب كما في المشاهد الانتخابية أو في لحظات الأحداث الهامة كانعقاد المؤتمر الاقتصادي الحالي.

ينظر المواطن حوله، ليجد الكثير من الأحزاب وقياداتها تتخلى عن شعاراتها البراقة وتخلط بقسوة بين المال والسياسة (أي بين مصالح النخب الاقتصادية والمالية وبين المشاهد المتبقية لنا من السياسة في مصر بانتخاباتها وبصراعات الأحزاب على الاقتراب من منظومة الحكم / السلطة والتنافس فيما بينها على تفريغ المجال العام من الأصوات والمجموعات المعارضة) وتنقلب على الأهداف الديمقراطية وتتعامل مع حقوق الإنسان بمعايير تؤلم ازدواجيتها نظير الحصول على وعود بحماية الامتيازات وبشيء من الحضور في الأروقة التشريعية والتنفيذية من قبل منظومة الحكم / السلطة.

ينظر المواطن حوله، ليجد بعض الأحزاب المعارضة في وضعية اكتفاء بعموميات رفض الخروج على الديمقراطية والانتهاكات والتنديد بطغيان المكون الامني وبإصدار بيانات "المواقف" وليس بيانات "السياسات العامة" دون العمل الجاد على صياغة رؤية بديلة لها من التكامل ومن الموضوعية ومن الجاذبية ما يمكن أن يقنع بعض الناس بإمكانية المزج بين التحول الديمقراطي وبين التنمية المستدامة، بين سيادة القانون وحقوق الإنسان وبين مواجهة التطرف والعنف والإرهاب، بين الأدوات القانونية والتنموية والمجتمعية وبين الأدوات العسكرية والأمنية الضرورية كلها للنجاة بمصر من ثلاثية السلطوية والتخلف والإرهاب.

وبالقطع، لن يرى المواطن المصري من أغلبية الأحزاب نشاطا تنمويا ومجتمعيا مستمرا بمعزل عن المصالح الضيقة والحسابات الشخصية، وبعيدا عن لحظات خروج المشاهد المتبقية لنا من السياسة إلى الحيز العلني في مواسم الانتخابات أو في محطات الصراع بين الأحزاب وقياداتها على الاقتراب من منظومة الحكم / السلطة وليس من الناس.

إزاء كل هذا، لا يمكن أن يكون التقييم السلبي للأحزاب السياسية غير ترجمة موضوعية لحقائق تتجاوز حتما حملات التشويه والتشكيك والنقد، ولا تقتصر أسبابها على طغيان المكون الأمني. في الأمر ما يلزم الأحزاب، إن الكثيرة المؤيدة أو القليلة المعارضة، بممارسة النقد الذاتي والبحث عن بداية صادقة.

غدا .. هامش جديد للديمقراطية في مصر.
الشروق

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -