على الرغم من نجاحاته المحدودة وإخفاقاته الكثيرة، لم يزل فك الارتباط بين الحفاظ على تماسك ومنعة الدولة الوطنية وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وبين صناعة نظم سياسية تلتزم بسيادة القانون، وضمانات حقوق وحريات المواطن، والآليات الديمقراطية، وتشرك الناس فى تعريف جوهر الصالح العام من جهة أخرى، يداعب مخيلة منظومات الحكم / السلطة فى بعض البلدان، ومصر اليوم فى عدادها.

الحقيقة الضائعة هنا هى أن صناعة الديمقراطية / مسارات بناء الديمقراطية / عمليات التحول الديمقراطى، تمثل شرطا ضروريا للإدارة العقلانية لترابطات المواطن والمجتمع والدولة، وللإعلاء من شأن المعرفة والعلم، ومن قيم المبادرة الفردية والعدل والمساواة والحرية والتسامح وقبول الآخر فى المجالين الخاص والعام، ودون ذلك يستحيل الحفاظ طويل المدى على تماسك ومنعة الدولة الوطنية، وتتعثر التنمية الاقتصادية والاجتماعية لتسجل إما إخفاقات متتالية أو مراوحة فى ذات مواقع أزمات الفقر والجهل والبطالة وتردى مستويات المعيشة، ويتراجع السلم الأهلى فى المجتمع، وتغيب من ثم طاقته الإبداعية (حصيلة مبادرات المواطنات والمواطنين الفردية) وقدرته على تجاوز الأزمات وتحقيق التقدم.

الحقيقة الضائعة هنا هى أن النجاحات المحدودة لفك الارتباط بين منعة الدولة الوطنية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبين صناعة الديمقراطية، إما ترتبط بتمتع البلدان المعنية بثروات طبيعية هائلة وبإفادتها من ريعها المادى للتأسيس لمؤسسات وأجهزة إدارة وخدمة عامة وقطاعات خدمية خاصة تضمن مستويات معيشية متقدمة، كما فى الخليج منذ سبعينيات القرن العشرين، أو بحضور معدلات جودة مرتفعة للنظم التعليمية والإدارية ولبعض القطاعات العلمية والصناعية والتكنولوجية، كما فى كوريا الجنوبية بين خمسينيات وستينيات القرن العشرين ــ علما بأن عمليات التحول الديمقراطى بدأت فى كوريا الجنوبية فى سبعينيات القرن العشرين، وسرعان ما استقر البناء الديمقراطى فى إطار سيادة القانون وتداول السلطة، أو ترتبط بالاستثناء الصينى وطاقاته البشرية وثرواته الطبيعية وكفاءة نظمه الإدارية التى يستحيل توافرها مجتمعة فى أى مكان آخر.

الحقيقة الضائعة هنا هى أن مصر ــ وليس لنا لا ثروات الخليج الهائلة وريعه النفطى، ولاتسجل قطاعاتنا التعليمية أو الصناعية أو التكنولوجية معدلات أداء متقدمة تصلح معها ﻷن تكون قاطرة للتنمية المستدامة، ولاكفاءة مرتفعة لمؤسسات وأجهزة الإدارة والخدمة العامة والقطاعات الخدمية الخاصة المعنية بأوضاعنا المعيشية وبتنظيم شئوننا الاقتصادية والاجتماعية ــ لاتملك مقومات إنجاح فك الارتباط بين الحفاظ على الدولة الوطنية والتنمية المستدامة وبين بناء الديمقراطية. وللأسف، لن يرتب تجاهل منظومة الحكم / السلطة لمقتضيات وضرورات بناء الديمقراطية سوى تراكم الأزمات المجتمعية وتتالى الإخفاقات التنموية بسبب غياب الإدارة العقلانية لترابطات المواطن والمجتمع والدولة وانهيار قيم المبادرة الفردية والعدل والمساواة والحرية والتسامح، ومن منا لايلمح التداعيات الكارثية لهذا الغياب وذلك الانهيار فى حياتنا اليومية، بمظالمها الكثيرة وانتهاكاتها المؤلمة والعقوبات السالبة للحرية لجهة مواطنات ومواطنين رفضوا الصمت وأصروا على التعبير السلمى عن رأيهم.

الحقيقة الضائعة هنا هى أن مصر، المستنفرة قدرات مؤسسات وأجهزة دولتها الوطنية لمواجهة الإرهاب والعنف وحماية الأمن القومى والداخل المصرى من الانفجارات الإقليمية المتصاعدة، لن تستطيع تعويض عدم حضور مقدمات إنجاح فك الارتباط بين الحفاظ على الدولة الوطنية وإنجاز التنمية وبين الديمقراطية لاعبر مساعدات الخليج الاقتصادية والمالية، ولاعبر التعويل الأحادى على إطلاق مؤسسات وأجهزة الدولة وقطاعها العام لمشروعات قومية كبرى. كذلك لن تستطيع مصر تعويض المقومات الغائبة عبر الخطاب الشعبوى لمنظومة الحكم / السلطة محدود المضمون، وغير المتوفر على الأدوات المعرفية والمجتمعية والسياسية الضرورية لتفكيك متواليات الاستبداد والفساد والتخلف، والرافض للتعامل بجدية (وجوهر الجدية هو السياسات العامة المختلفة) مع استعادة السلم الأهلى برفع الظلم وإقرار العدل وإيقاف انتهاك الحقوق والحريات بتفعيل سيادة القانون ومساءلة ومحاسبة المتورطين كمقتضيات أساسية لمواجهة الإرهاب والعنف وتخليصنا من شرورهما.

متى نستفيق؟

غدا.. هامش جديد للديمقراطية فى مصر.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -