1-المعركة ليست جديدة.

في 2004 شّيد أحد الجيران مسجدًا ليكون صدقة جارية على روح والده، استبشر سكان شارعنا خيرًا، فالآن يمكنهم أداء الفرائض في المسجد دون أن يكونوا مضطرين للسير لمسافة طويلة، كنت أقابل كل سكان الشارع وأطفالهم في المسجد الجديد كل صلاة، يتقدم أكبرهم سنا في الصلوات السرية وأعذبهم صوتا في الصلوات الجهرية، تنقضي الصلاة فيعود كلٌ إلى منزله على أن يتجدد اللقاء في الصلاة التالية.
بعد أسابيع بدأ أصحاب اللحى والجلابيب القصيرة يظهرون بالتزامن مع ظهور آخرين معروفين بانتمائهم لجماعة الإخوان، تُقام الصلاة فَيَهم كل فريق بتقديم أحد أفراده لإمامة المصلين ومع الوقت باتت الإمامة تُحسم لمن يأتي مبكرًا، وبعد أسابيع أخرى حسم السلفيون معركة الإمامة وانسحب الإخوان.

لم يُظهر أبناء شارعنا اعتراضًا على ما يحدث ولم يزاحموا على الإمامة، وبدا أنهم اقتنعوا بأن هؤلاء الشباب من أصحاب اللحى والجلابيب السعودية أحق بها باعتبارهم الأكثر علمًا بالدين وحفظًا لكتاب الله، لكن بمرور الوقت بدأ السلفيون يتوافدون على المسجد في كل صلاة من أماكن بعيدة حتى بات أبناء الشارع أقلية في المسجد.

فرض المحتلون قواعدهم على بيت الله باعتبارها صحيح الدين، فلا سجاجيد مزخرفة ولا نقوش على القبلة ولا أذانين للجمعة، أوقات طويلة تفصل بين الأذان والإقامة، صلاة بطيئة لا يقدر عليها الأطفال والمسنون، حيث الركوع طويل والسجود أطول، وفي غضون شهور قليلة عاد أبناء الشارع لمساجدهم الأصلية وتحول المسجد الذي يتوسط شارعهم إلى معقل لسلفيي القرية والقرى المجاورة.
شعرت الدولة بخطورة هذا المعقل السلفي الخارج عن السيطرة، ضمت المسجد لتبعية وزارة الأوقاف وعينت له إماما أزهريًا ليؤم المصلين، في البداية نشبت خلافات كبيرة بين الإمام الجديد وبين السلفيين الذين حاولوا مضايقته واستغلال أي غياب طارئ له لاستعادة ملكهم، لكنهم في النهاية اضطروا لترك المسجد والبحث عن مسجد آخر.

استبشر سكان الشارع خيرا، فأخيرا عاد إليهم المسجد وعلى رأسه إماما أزهريا معتدلا يمثل الإسلام الوسطي الجميل الذي يسمعون عنه، ولذلك عادوا هم أيضا إليه لكنهم صُدموا مجددا، فالإمام الأزهري لا يجيد تجويد القرآن ولا يمتلك صوتًا جميلا في تلاوته، عنده مشكلة كبيرة في مخارج الحروف، ولا يمتلك علما يؤهله للإجابة عن أي سؤال في الدين.

هجر الجيران المسجد للمرة الثانية دون رجعة، ومن وقتها يصلي إمام الدولة وخلفه عدد من المصلين لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، وأحيانا أمر عليه في أوقات الصلاة فأجده يصلي وحده!

2-

الصراع على ملكية مسجد شارعنا ليس إلا صورة مصغرة لما يحدث في مصر، وعزوف الجيران عن الصلاة فيه هربا من معارك الإخوان والسلفيين والأزهر على حكمه نموذج لملل المصريين من هذه المعركة التي لا يخوضها أحد من أجل الدين.
نعيش صراعًا على امتلاك الدين ليس أكثر، وبعد أن كان الأزهر يعيب على الإخوان والسلفيين احتكارهم الدين يسعى هو الآن لاحتكاره بمجرد أن واتته الفرصة، يريد أن يكون رقيبا على كل أمر يخص الدين ولا يريد لأحد أن يكون رقيبا عليه، يكفيه أنه طرد السلفيين والإخوان من على المنابر وحل هو محلهم دون أن يراقب ما يقوله خطباؤه على المنابر أو يتأكد إذا كانوا يستحقون أصلا صعودها أم لا.
لا يريد الأزهر أن يسود منهجه لأنه وسطي وجميل، لكن لأنه منهجه.

استغل الأزهر غضب الناس من الإخوان والسلفيين بعد حكم مرسي، واستثمر حاجة الدولة لظهير ديني يدعمها في مواجهتها مع الإسلاميين، في الحصول على مكاسب تدعم وصايته على المجتمع، وتعزز احتكاره للدين، وتعتمد تفسيره هو للآيات ونظرته هو للتاريخ ومواقفه هو من شخوصه.

أصبح الأزهر يقيّم الكتب ويستطيع سحبها من الأسواق إذا لم تعجبه، يوافق على أي سيناريو أو يرفضه، يقبل باستمرار أي برنامج أو يوصي بمنعه، يتدخل في أي رأي أو فكر ليقضي بعدها إذا كان من الإسلام أو لا، لم يبق سوى أن يدعو الناس لشراء صكوك الغفران من مقر المشيخة بالدراسة ثم يقولون بعدها إنه لا يوجد في مصر حكم كهنة!

3-

لم نعارض السلفيين والإخوان لتحفظنا على طول لحاهم أو قصر ثيابهم، لكن لفزعنا من تحويل الدين إلى سلعة يحتكرها فصيل أو جهة ما ويفرضها على الجميع.
الأزمة ليست في موقفنا من فكر الأزهر، لكن في موقفنا من فكرة الاحتكار، خاصة إذا كان الأمر مرتبطا بالتراث والتاريخ الإسلامي الذي اختلف عليه الصحابة والتابعون أنفسهم بعد سنوات قليلة من وفاة الرسول الكريم، ويستكثر علينا الأزهر أن نختلف عليه نحن بعد 1436 سنة من الهجرة.

الأزمة في أن يكون شرط الاجتهاد في الدين الحصول على شهادة دراسية من جامعة تابعة للدولة، يرأسها رجل تعينه الدولة، وتحت مظلة شيخ يُعين بقرار جمهوري ويعمل في السياسة أكثر من عمله في الدين، هنا لا يتحول الدين فقط إلى سلعة، لكن إلى سلعة تملكها الدولة وتحركها وتحدد مواقفها السياسة.

والأزمة الأكبر والأخطر أن فكر الأزهر أصلا ليس وسطيا ولا جميلا ولا يختلف عن فكر الإخوان والسلفيين.. وهذا ما نتكلم عنه الأسبوع المقبل.

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -