هل تسير مصر في الطريق الصحيح؟، سأجيبك على سؤالك بسؤال آخر: هل يوجد في أروقة الحكم من يجرؤ على أن يقول لعبد الفتاح السيسي: لا؟، وإذا كانت إجابتك بالنفي، تأكد أن مصر لا تسير على الطريق الصحيح، مهما طبل المطبلون، وتوحش المفوضون، خاصة وهي لا تملك الرفاهية اللازمة لإعادة اختبار مقولة "السلطة المُطلقة مفسدة مُطلقة"، لأن أغلب ما تعاني مصر منه من مصاعب وأزمات جرى بفعل إطلاق سلطة الحاكم الفرد، من دون رقيب يصده، ولا حسيب يرده.
"انظر حولك"، وتعال نتجاهل القرارات التي لا تحتاج إلى مشاورات مطولة، مثل قرار تنظيف شوارع المدن من الزبالة، أو إصلاح أحوال السلخانات المسماة زورا بالمستشفيات، وتعال لنأخذ قراراً عسكرياً شديد الخطورة في آثاره، مثل اشتراك مصر في الحرب على اليمن؟، ولكي لا نضرب رجماً بالغيب، فنجزم أن أحداً، في أجهزة الدولة العليا، لم يعترض على قرار السيسي بالاشتراك فيها، دعنا نتأمل ما حدث من قبل في ظل حكم الفرد، خلال حرب اليمن الأولى، التي يوجد إجماع أنها كانت، من أهم أسباب استنزاف قوة الجيش المصري وتشتيت جهوده العسكرية، بشكل تسبب في هزيمة 1967، التي لم تتعاف مصر من آثارها حتى الآن، واسأل سيناء إن أردت.
يومها، وقبل أن يقرر جمال عبد الناصر إرسال ثلاث طائرات حربية وفرقة صاعقة وسرية من مائة جندي إلى اليمن، في مهمة ظنها سهلة للغاية، وجد من يجرؤ على أن يقول له لا، كان ذلك رفيقه، كمال الدين حسين، عضو مجلس قيادة الثورة، الذي اعتبر قراراً كهذا يشتت الجيش عن مهمته الأساسية، في حربه مع عدو إسرائيلي متأهب على الدوام، مذكّراً بكم الخسائر التي تحملتها ميزانية الدولة، من جراء مغامرة الوحدة مع سورية التي انتهت بالانفصال المرير، الذي كان من أبرز دوافع قرار عبد الناصر بدخول حرب اليمن. يومها، انتهت المناقشة بأن أسمع عبد الناصر زميله "من المنقّي خيار"، وذكّره بفشله في وزارة التعليم، وطلب إنهاء الاجتماع "لأن كمال تعبان ولازم يستريح". وطبقا لرواية نقلها وجيه أبو ذكري في كتابه (الزهور تدفن في اليمن)، بدأ كمال، فور انتهاء الاجتماع استراحة طويلة، في ظلال الإقامة الجبرية في الإسكندرية. وللأسف، لم يتذكر أحد موقفه، حين اضطر عبد الناصر إلى زيادة عدد القوات رغما عنه، وبالتدريج، ليصل العدد إلى سبعين ألف ضابط وجندي. لن تجد للأسف، اتفاقا رسميا على عدد الذين سقطوا منهم شهداء، ففي حين يرى أبو ذكري أنهم كانوا عشرين ألف شهيد، يعتبر بعض الكتاب "الناصريين" ذلك الرقم "مبالغاً فيه لأن العدد لا يتجاوز عشرة آلاف"، كأن خسارة ذلك العدد أمر هين معنويا وماديا.
وكما أخفت ماكينات الكذب الإعلامي في الستينيات أرقام الخسائر المتلاحقة عن الشعب، فقد حاولت تبرير الحرب بعد فشلها، بأنها كانت خطوة ضرورية لمساندة الثورة اليمنية، من دون أن تتاح الفرصة لمن يُذكِّر الشعب، بأن عبد الناصر نفسه كان قد عقد اتفاقيات عسكرية واقتصادية مع النظام الإمامي، بل وأرسل بعثة عسكرية للإشراف على قواته المسلحة، تماما كما لم يوجد من يتعجب، كيف تبددت في الهواء تلك الشتائم العنترية التي كان يكيلها عبد الناصر لحكام السعودية، حين ذهب عبد الناصر سنة 1965 إلى جدة، لاسترضاء الملك، بعد أن كان يقول إن "جزمة شهداء مصر في اليمن أشرف من آل سعود"، من دون أن يجد من يقول له لا، لكل هذه القرارات العشوائية والتصريحات العنترية، ولا من يسأله عن سر تجاهله تقرير الفريق أول عبد المحسن كامل مرتجى، قائد القوات المصرية في المرحلة الثالثة من حرب اليمن، والذي أكد أن مشكلة اليمن لن تحل عسكريا، وأن العمل السياسي هو حلها الوحيد، ولم يكن ذلك التقرير الوحيد، كما يؤكد الفريق أول كمال حسن علي، في مذكراته (مشاوير العمر) التي يروي فيها كيف حاول مع قادة آخرين، "التعبير بصراحة هامسة"، عن خطورة تلك الحرب التي تخلو من أي مقصد استراتيجي يفيد مصر، بينما تمتلئ بالأضرار المحتم تحقيقها، لكنهم لم يجدوا أذنا تستجيب.
بالطبع، تختلف تفاصيل حرب اليمن الأولى عن الثانية، لكن جوهر المعضلة يبقى كما هو بعد كل هذه السنين، حاضراً من جهاز علاج الإيدز إلى مشروع العاصمة الجديدة، ومن تأميم القناة إلى توسيع القناة، ومن اليمن إلى سيناء، ومن سورية إلى بغداد، إنها باختصار مؤلم ومخجل: معضلة حكم الفرد الذي لا يجد من يجرؤ على أن يقول له: لا.

العربى الجديد

0 التعليقات:

Post a Comment

 
الحصاد © 2013. All Rights Reserved. Powered by Blogger Template Created by Ezzeldin-Ahmed -