وائل قنديل
تعرف وسائل الإعلام الأمنية، جيدا، من أين يؤتى المثقف، أو يؤكل، فتعد له سؤالا سريعا: هل تعلم، عزيزي مثقف الدولة، أن انفجار شبرا الذي سمع دويه في القاهرة الكبرى وصل إلى قصر محمد علي الأثري الذي يضم أعمالا فنية عريقة وخالدة.. ما رأيك في هذا الحادث الإرهابي الفظيع؟
يشمر المثقف عن ساعده، ويرتدي "الميري"، وينبري للإجابة هكذا: "الحادث التفجيرى ما هو إلا حلقة فى سلسلة تفجيرات تستهدف المباني التراثية، فما بالنا بتراث أمة، ومنجزها الحقيقى، في المعمار وفي المخطوط، وجماعات الإسلام السياسي، وما تمثله ضد أي منجز حضاري، وتنظر لهذا المنجز باعتباره منجزاً وثنيا (شغل كفار)، والعالم الآن يعاني من تلك الردة، وما يجري في العراق من إبادة لحضارة السابقين، وما يحدث فى سورية وباكستان، وتحطيم تماثيل أفغانستان، كل هذا دلالة على توحش التطرف والإرهاب".
ثم يضيف مثقف آخر "فوجئنا بالإفراج عن عدد من المتهمين الإخوان، خلال الفترة الماضية، في الوقت الذي تقضي فيه إحدى الناشطات حكم حبس 7 سنوات، بسبب تظاهرها ضد قانون التظاهر". ثم يطالب بالإفراج عن المحبوسين من أنصار الدولة المدنية، وتعديل القوانين، بحيث تسمح للمثقف بأن يقوم بدوره في مواجهة الفكر الإرهابي المتطرف، مؤكدا أن المثقف دائما ما يقف ضد الإرهاب والإرهابيين".
إذن، سيادة المثقف الجنرال على أتم الاستعداد للانخراط مع المؤسسة الأمنية في مواجهة الإرهاب، ويؤيد أن تحبس وتمتهن وتهدر حقوق الإنسان "الإسلاموي السياسي"، كما تشاء، شريطة أن تمنح كل الحرية لكل من لا ينتمون لتيار الإسلام السياسي.
يدرك هؤلاء جيداً، أنه، لا أحد في تنظيمات الإرهاب، ولا المؤسسة الأمنية التي تمارس الإرهاب نفسه، يعرف، أو يدرك، أن هناك قصراً معماريا تراثيا في شبرا، يضم كنوزا أثرية، كما أنه لا يهتم أصلا، أو يحترم الإبداع الفني، أو يشغل باله به، وبالتالي، لم يكن المعمار الأثري، والإبداع الفني، مستهدفين في القصة كلها، سلباً أو إيجابا.
لكنه المثقف الجاهز دوماً لأداء الأدوار البوليسية، تطوعاً أو تكليفاً، ولعلك تذكر، أو لا تذكر، أن المحرض الأول على طمس اسم "رابعة العدوية" من الميدان الشهير الذي شهد أبشع مذبحة، باركها معظم المثقفين "المحفلطين" في مصر، لم يكن عبد الفتاح السيسي، أو توفيق عكاشة، أو أحمد موسى، بل كان" أحمد " آخر، هو المثقف والكاتب الساخر الراحل أحمد رجب، الذي كتب بزاويته اليومية"نص كلمة" في نوفمير/ تشرين ثان 2013 ما يلي"أرجو أن تغير اسم الميدان والمسجد المسميين باسم رابعة العدوية، أشهر ناسكات المذهب الصوفي في القرن الثاني الهجري، فقد أقرنوا اسمها بالجريمة والدم والإرهاب، كما اتخذوا من الأصابع الأربعة شعاراً لهم، أرجو أن تختار اسما آخر للميدان والمسجد".
ولم يمهل الموت المثقف الكبير، لكي يرى تحقيق الجزء الأول من أمنيته، بتغيير اسم الميدان، فرحل تاركا النصف الآخر، ليتبناه مثقف آخر، كبير أو صغير، بتغيير اسم المسجد، ليكون آخر ما كتب تماهياً كاملا مع الدولة البوليسية القمعية القاتلة، وعبورا فوق أجساد آلاف الشهداء، للحصول على الأوسمة وجوائز النظام وعطاياه، للمخلصين من أبناء الحظيرة الثقافية، في خدمة المشروع القومي للمكارثية والعنصرية المصرية.
تشغلني كثيرا الوقائع الدرامية المصاحبة لنهاية رحلة المثقف العربي بشكل عام، وأتعجب دائما من اختيارات المثقف نهايته، والتي تجسد، في العادة، خلاصة حياته ومسيرته، فمنهم من يموت بين الشعب والناس والبشر، فتغسله دموع الملايين من البسطاء، ومنهم من يموت على فراش السلطة، فلا تستطيع حفلات التأبين الفارهة، ولا المرثيات الرسمية الفخيمة، أن تصنع حالة حزن حقيقي عليه.
وعلى ذكر النهايات، فجعت بنبأ أستاذ وزميل لي في مهنة الصحافة، هو الكاتب الناصري، شفيق أحمد علي، الأكثر إخلاصا في الحرب ضد التطبيع والسقوط في مستنقعاته، منذ زيارة أنور السادات إلى الكيان الصهيوني، كان المثل الأعلى في كتابة التحقيق الصحفي، وفي التعفف والتجرد وما زلت أذكر مفردتيه الأثيرتين، في الحياة، كما في المهنة "الشفافية والنقاء".
هذا الرجل حلمت، في بدايات حياتي، بأن أكتب مثله، فأنعم الله علي بأن تزاملنا بعد سنوات، مديرين لتحرير صحيفة "العربي" الناصرية في إصدارها اليومي. وها هو يرحل شفافا نظيفا، كما عاش، لم يتلوث قلمه، وهو الناصري القح، بوساخات التحريض على قتل وإبادة الخصوم السياسيين التاريخيين للتجربة الناصرية، من المنتمين للإخوان المسلمين. ولم يقف ماداً يديه ومصعرا خديه على بوابة "30 يونيو" طلباً لمنصب أو وظيفة، منقوعة في دم المصريين من ضحايا نظام المجازر.
مضى، نظيفا، تاركا خلفه أعذب الكتابات عن محمود نور الدين وسليمان خاطر وسعد إدريس حلاوة وسناء محيدلي، وكل الذين استشهدوا من أجل فلسطين.
مات شفيق أحمد، وبقي أحمد شفيق
0 التعليقات:
Post a Comment