د/سيف عبد الفتاح
ليس هذا عنوان فيلم من أفلام الأكشن، أو أفلام الخيال العلمي، بل حقيقة من حقائق انقلاب دموي عتيد فى إجرامه، يتحكم اليوم بزمام مصر، وواقعة من وقائع توحشه البغيض، الكاشفة عن نفسية شيطانية، لا عقل لها ولا ضمير. إنها حادثة كافية للإجابة عن أسئلة كثيرة، بخصوص الثورة المضادة وقواها، وما تختزنه من كراهية عمياء وحقد أسود وفكر إرهابي خسيس. ومن المهم أن نؤكد أن هذه الأوصاف ليست على سبيل الشتم أو السب أو إظهار الانفعالات، ولا هي بالتشخيص الأخلاقي فقط لحالة انعدمت فيها القيم والأخلاق، بقدر ما هي محاولة للاقتراب من الواقع، وتوصيفه بتعبيرات أقرب إلى الدقة، وإن بدت بلاغية، لكنها في الواقع تطابق الحال المزري الذي نشهده.
في 23/8/2013 تمت تعبئة 37 إنسانًا في عربة تسمى، في مصرنا الحبيبة، عربة الترحيلات، يفترض أنها مخصصة لنقل المتهمين أو المحكومين بين مقار القضاء ومقار الشرطة (الاحتجاز أو السجن)؛ أي يفترض أنها تنقل بين المسؤولين عن الأمن والعدالة، لكنها في الحالة الانقلابية التي تهيمن على بلادنا في كل شيء، إنما تنقلهم بين قوة القمع والبطش والتنكيل والتعذيب والإرهاب وقوة الظلم والبغي والرشوة والفساد وخراب الذمم والتعدي على النفوس والأعراض والأموال. هي عربة تختصر في رحلتها رحلة الوطن في أرجائها كافة، تختصر، في كل روحة وغدوة، قصة شعب وأجيال كتب عليها أن تعبأ وتحشر في عربة مغلقة الأبواب والنوافذ، يقودها جاهلون بلداء الأذهان، متعطشون للفساد من كل لون.
في هذا التاريخ، شهدت إحدى هذه العربات القاتلة حادثة مروعة، حيث تمت عملية متعمدة لقتل 37 نفسا حرقا وخنقا، 37 نفسًا اعتقلها من يدعون أنهم شرطة، وإنما هو أسوأ من أسر الأعداء الأجانب، وأشرّ من فعل قطاع الطريق واختطاف الإرهابيين. تم حشر هؤلاء الأسرى في علبة لا تتسع لنصف عددهم، منهم الكبير والمريض، وهم عطاش جياع، وفي جو شديد الحرارة، جو خانق، وحر حارق، إلا أن البغاة الظلمة أبوا إلا أن يغلقوا عليهم أبواب جهنم، ويحيطوهم بسخريتهم واستخفافهم بكل معاناة، وبكل معنى للإنسانية. فأوقفوا السيارة الجهنيمة بلا حركة، ساعات وراء ساعات، والأسرى يستغيثون ويصرخون: نحن نموت، افتحوا باباً أو نافذة، فينا من ينتحب ويحتضر،.. فيأتيهم صوت الزبانية: موتوا يا أولاد الـ..
يتحول الصراخ إلى خبطات على جدار الوطن الصغير، طرقات استغاثة للخروج من عربة الموت، يتلقاها الوحوش على أنها اعتراض، تمرد، محاولة للتحرر من الأسر الأبدي، فيتم الانقضاض على الفرائس البائسة بقنابل خانقة حارقة، قنابل ليست مسيلة للدموع، بل مزهقة للأرواح، ومرت لحظات تتردد فيها الأرواح المختنقة في الصدور صاعدة إلى ربها، وتسقط الأجساد محترقة شاكية إليه تلك النفوس الخبيثة التي لا تعرف للحياة قيمة، ولا للإنسانية معنى.
ولكن المشهد الحارق الخانق لم ينته، فقد انتقلت اللعنة إلى مكاتب إدارة الانقلاب وكواليس صناعة الخراب. بعد أكثر من عام، في ديسمبر/كانون الأول 2014، تنقل عربة التسريبات حوارا بين أئمة التوحش في بلدنا، يتحدّث ترزي قوانين العسكر، مع مساعد المنقلب الأكبر، يرتبان فيها قانوني تعديل خدمة الضباط واللجان القضائية والقضاء العسكري للإعدام بدون رأي المفتي، وموضوع استقالة الخائن وترشحه للرئاسة المغتصبة. النيابة نفسها كيّفت القضية على أنها قتل وإصابة خطأ، لكن هذا لا يكفي، فيطلب العباس من الشاهين استنقاذ أحد القتلة، لأنه ابن لواء:
- "ماتشوف يا فندم القضية بتاعة الحاجة وتلاتين واحد اللي تمت في عربية الأمن المركزي دي.. فيهم ابن عبد الفتاح حلمي.
- أنا هاكلمله القاضي.. على أساس أنه يسمح .. كانوا طالبين شهادة ناس زمايله..
- آه والنبي يا فندم .. دا الواد هايموت... (وقد أكدت معامل صوت عالمية أنه شاهين العسكر).
هذا هو نظامهم وعسكرهم وقضاؤهم وشرطتهم، وسرهم وعلانيتهم، ومكرهم وخيانتهم. ليس ما في مصر انقلابا عاديا يُقاس على نماذج سابقة لانقلابات عسكرية تنافست في الدناءة واللاأخلاقية. من المهم أن تلتفت إلى السهولة النفسية التي قتل بها القتلة الصغار الصاعدون هؤلاء الأسرى، بدم بارد، ونفس هادئ، ومن المهم أن تنتبه إلى الطريقة التي تكلم فيها عباس وممدوح، الضابطان القياديان الكبيران، في القضية (الكام وتلاتين بتوع عربية الأمن المركزي) بمنتهى البساطة والاعتيادية، وكيف أن القضية عندهم هي ابنهم هم الذي من صلبهم العسكري: ابن زميلهم (الولد هايموت)؛ لأنه محبوس بالطبع في مكانٍ يراعي حقوق الإنسان. من المهم أن نتذكّر دائما هذه الكلمة التي قالاها: (كلملنا القاضي. حاضر يا فندم هاكلم القاضي). ولعل أحداً منا يكلم القاضي، ويقول له: ما رأيك يا شامخ!، خرج القتلة في ما يشبه البراءة، وجعلوها جنحة إمعانا فى الإجرام.
تأتي الذكرى الثانية لسيارة الموت، لتذكّرنا بأن مسيرة حرق الوطن وخنقه لا تزال مستمرة، وأنها تتم بتحالف شيطاني بين رؤوس العسكر والشرطة والقضاء والإعلام، ومن طبّل وهلل لهم من فاقدي الأخلاق والإنسانية، فضلا عن الدين والوطنية. إننا أمام منظومة شر وتوحش، تتحكم برقبة الوطن، وتلعب على وعي الناس، فتصور لهم أنيابها ومخالبها كـ"حضن"، وقسوتها كـ"حنو"، وخيانتها "حماية ودفاعاً عن الوطن والدولة والشعب".
من المهم حفظ الذاكرة وإحياؤها، والتأمل في ثناياها وقراءة ما بين سطورها وما وراء ستورها؛ لنكتشف الحقائق ونتعامل مع الواقع، ونرفع من الهمم والعزائم القادرة على مواجهة هذا الخطر المتمثل في هذا الانقلاب المجرم القاتل الحارق الخانق، ونؤكد لهؤلاء القتلة، في كل لحظة، أن القصاص قادم لا محالة.
بشاعة عربة الموت التي انحشر فيها الوطن وناسه جديرة بأن تجعلنا نفرّ إلى عربة الحياة وطوق النجاة من هذا الطوفان وما بعده.. فلتعد أيها الوعي الغائب والمغيب، ولتحيا أيها الضمير الغارق في سباته، ولتتجدد أيها الصف الوطني المنتظر، قبل أن يذهب بنا الخطر إلى حيث لا مرجع ، فنلقى المصير نفسه في عربة ترحيلات الوطن، يفتك بها خنقا وشيًّا، أمثال المنقلب.
ليس هذا عنوان فيلم من أفلام الأكشن، أو أفلام الخيال العلمي، بل حقيقة من حقائق انقلاب دموي عتيد فى إجرامه، يتحكم اليوم بزمام مصر، وواقعة من وقائع توحشه البغيض، الكاشفة عن نفسية شيطانية، لا عقل لها ولا ضمير. إنها حادثة كافية للإجابة عن أسئلة كثيرة، بخصوص الثورة المضادة وقواها، وما تختزنه من كراهية عمياء وحقد أسود وفكر إرهابي خسيس. ومن المهم أن نؤكد أن هذه الأوصاف ليست على سبيل الشتم أو السب أو إظهار الانفعالات، ولا هي بالتشخيص الأخلاقي فقط لحالة انعدمت فيها القيم والأخلاق، بقدر ما هي محاولة للاقتراب من الواقع، وتوصيفه بتعبيرات أقرب إلى الدقة، وإن بدت بلاغية، لكنها في الواقع تطابق الحال المزري الذي نشهده.
في 23/8/2013 تمت تعبئة 37 إنسانًا في عربة تسمى، في مصرنا الحبيبة، عربة الترحيلات، يفترض أنها مخصصة لنقل المتهمين أو المحكومين بين مقار القضاء ومقار الشرطة (الاحتجاز أو السجن)؛ أي يفترض أنها تنقل بين المسؤولين عن الأمن والعدالة، لكنها في الحالة الانقلابية التي تهيمن على بلادنا في كل شيء، إنما تنقلهم بين قوة القمع والبطش والتنكيل والتعذيب والإرهاب وقوة الظلم والبغي والرشوة والفساد وخراب الذمم والتعدي على النفوس والأعراض والأموال. هي عربة تختصر في رحلتها رحلة الوطن في أرجائها كافة، تختصر، في كل روحة وغدوة، قصة شعب وأجيال كتب عليها أن تعبأ وتحشر في عربة مغلقة الأبواب والنوافذ، يقودها جاهلون بلداء الأذهان، متعطشون للفساد من كل لون.
في هذا التاريخ، شهدت إحدى هذه العربات القاتلة حادثة مروعة، حيث تمت عملية متعمدة لقتل 37 نفسا حرقا وخنقا، 37 نفسًا اعتقلها من يدعون أنهم شرطة، وإنما هو أسوأ من أسر الأعداء الأجانب، وأشرّ من فعل قطاع الطريق واختطاف الإرهابيين. تم حشر هؤلاء الأسرى في علبة لا تتسع لنصف عددهم، منهم الكبير والمريض، وهم عطاش جياع، وفي جو شديد الحرارة، جو خانق، وحر حارق، إلا أن البغاة الظلمة أبوا إلا أن يغلقوا عليهم أبواب جهنم، ويحيطوهم بسخريتهم واستخفافهم بكل معاناة، وبكل معنى للإنسانية. فأوقفوا السيارة الجهنيمة بلا حركة، ساعات وراء ساعات، والأسرى يستغيثون ويصرخون: نحن نموت، افتحوا باباً أو نافذة، فينا من ينتحب ويحتضر،.. فيأتيهم صوت الزبانية: موتوا يا أولاد الـ..
يتحول الصراخ إلى خبطات على جدار الوطن الصغير، طرقات استغاثة للخروج من عربة الموت، يتلقاها الوحوش على أنها اعتراض، تمرد، محاولة للتحرر من الأسر الأبدي، فيتم الانقضاض على الفرائس البائسة بقنابل خانقة حارقة، قنابل ليست مسيلة للدموع، بل مزهقة للأرواح، ومرت لحظات تتردد فيها الأرواح المختنقة في الصدور صاعدة إلى ربها، وتسقط الأجساد محترقة شاكية إليه تلك النفوس الخبيثة التي لا تعرف للحياة قيمة، ولا للإنسانية معنى.
ولكن المشهد الحارق الخانق لم ينته، فقد انتقلت اللعنة إلى مكاتب إدارة الانقلاب وكواليس صناعة الخراب. بعد أكثر من عام، في ديسمبر/كانون الأول 2014، تنقل عربة التسريبات حوارا بين أئمة التوحش في بلدنا، يتحدّث ترزي قوانين العسكر، مع مساعد المنقلب الأكبر، يرتبان فيها قانوني تعديل خدمة الضباط واللجان القضائية والقضاء العسكري للإعدام بدون رأي المفتي، وموضوع استقالة الخائن وترشحه للرئاسة المغتصبة. النيابة نفسها كيّفت القضية على أنها قتل وإصابة خطأ، لكن هذا لا يكفي، فيطلب العباس من الشاهين استنقاذ أحد القتلة، لأنه ابن لواء:
- "ماتشوف يا فندم القضية بتاعة الحاجة وتلاتين واحد اللي تمت في عربية الأمن المركزي دي.. فيهم ابن عبد الفتاح حلمي.
- أنا هاكلمله القاضي.. على أساس أنه يسمح .. كانوا طالبين شهادة ناس زمايله..
- آه والنبي يا فندم .. دا الواد هايموت... (وقد أكدت معامل صوت عالمية أنه شاهين العسكر).
هذا هو نظامهم وعسكرهم وقضاؤهم وشرطتهم، وسرهم وعلانيتهم، ومكرهم وخيانتهم. ليس ما في مصر انقلابا عاديا يُقاس على نماذج سابقة لانقلابات عسكرية تنافست في الدناءة واللاأخلاقية. من المهم أن تلتفت إلى السهولة النفسية التي قتل بها القتلة الصغار الصاعدون هؤلاء الأسرى، بدم بارد، ونفس هادئ، ومن المهم أن تنتبه إلى الطريقة التي تكلم فيها عباس وممدوح، الضابطان القياديان الكبيران، في القضية (الكام وتلاتين بتوع عربية الأمن المركزي) بمنتهى البساطة والاعتيادية، وكيف أن القضية عندهم هي ابنهم هم الذي من صلبهم العسكري: ابن زميلهم (الولد هايموت)؛ لأنه محبوس بالطبع في مكانٍ يراعي حقوق الإنسان. من المهم أن نتذكّر دائما هذه الكلمة التي قالاها: (كلملنا القاضي. حاضر يا فندم هاكلم القاضي). ولعل أحداً منا يكلم القاضي، ويقول له: ما رأيك يا شامخ!، خرج القتلة في ما يشبه البراءة، وجعلوها جنحة إمعانا فى الإجرام.
تأتي الذكرى الثانية لسيارة الموت، لتذكّرنا بأن مسيرة حرق الوطن وخنقه لا تزال مستمرة، وأنها تتم بتحالف شيطاني بين رؤوس العسكر والشرطة والقضاء والإعلام، ومن طبّل وهلل لهم من فاقدي الأخلاق والإنسانية، فضلا عن الدين والوطنية. إننا أمام منظومة شر وتوحش، تتحكم برقبة الوطن، وتلعب على وعي الناس، فتصور لهم أنيابها ومخالبها كـ"حضن"، وقسوتها كـ"حنو"، وخيانتها "حماية ودفاعاً عن الوطن والدولة والشعب".
من المهم حفظ الذاكرة وإحياؤها، والتأمل في ثناياها وقراءة ما بين سطورها وما وراء ستورها؛ لنكتشف الحقائق ونتعامل مع الواقع، ونرفع من الهمم والعزائم القادرة على مواجهة هذا الخطر المتمثل في هذا الانقلاب المجرم القاتل الحارق الخانق، ونؤكد لهؤلاء القتلة، في كل لحظة، أن القصاص قادم لا محالة.
بشاعة عربة الموت التي انحشر فيها الوطن وناسه جديرة بأن تجعلنا نفرّ إلى عربة الحياة وطوق النجاة من هذا الطوفان وما بعده.. فلتعد أيها الوعي الغائب والمغيب، ولتحيا أيها الضمير الغارق في سباته، ولتتجدد أيها الصف الوطني المنتظر، قبل أن يذهب بنا الخطر إلى حيث لا مرجع ، فنلقى المصير نفسه في عربة ترحيلات الوطن، يفتك بها خنقا وشيًّا، أمثال المنقلب.
العربى الجديد
0 التعليقات:
Post a Comment